الأشباه والنظائر ج1 ص 83

القاعدة الرابعة: الضرر يزال .

أصلها قوله صلى الله عليه وسلم { لا ضرر ولا ضرار  } أخرجه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلا وأخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي والدارقطني، ومن حديث أبي سعيد الخدري وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس وعبادة بن الصامت .

[ ص: 84 ] اعلم أن هذه القاعدة ينبني عليها كثير من أبواب الفقه من ذلك: الرد بالعيب، وجميع أنواع الخيار: من اختلاف الوصف المشروط، والتعزير، وإفلاس المشتري، وغير ذلك، والحجر بأنواعه، والشفعة، لأنها شرعت لدفع ضرر القسمة. والقصاص، والحدود، والكفارات، وضمان المتلف، والقسمة، ونصب الأئمة، والقضاة، ودفع الصائل، وقتال المشركين، والبغاة، وفسخ النكاح بالعيوب، أو الإعسار، أو غير ذلك، وهي مع القاعدة التي قبلها متحدة، أو متداخلة.

ويتعلق بهذه القاعدة قواعد

الأولى: الضروريات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها، ومن ثم جاز أكل الميتة عند المخمصة، وإساغة اللقمة بالخمر، والتلفظ بكلمة الكفر للإكراه، وكذا إتلاف المال، وأخذ مال الممتنع من أداء الدين بغير إذنه، ودفع الصائل ولو أدى إلى قتله، ولو عم الحرام قطرا، بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادرا فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه، ولا يقتصر على الضرورة.

 قال الإمام : ولا يرتقي إلى التبسط، وأكل الملاذ بل يقتصر على قدر الحاجة.

 قال ابن عبد السلام : وفرض المسألة: أن يتوقع معرفة صاحب المال في المستقبل.

 فأما عند اليأس فالمال حينئذ للمصالح ; لأن من جملة أموال بيت المال: ما جهل مالكه.

 ويجوز إتلاف شجر الكفار وبنائهم لحاجة القتال، والظفر بهم، وكذا الحيوان الذي يقاتلون عليه، ونبش الميت بعد دفنه للضرورة بأن دفن بلا غسل، أو لغير القبلة أو في أرض أو ثوب مغصوب. وغصب الخيط لخياطة جرح حيوان محترم .


القواعد و الفوائد؛ ج‌1، ص: 141

القاعدة الرابعة: الضرر المنفي

و حاصلها: أنها ترجع إلى تحصيل المنافع، أو تقريرها لدفع المفاسد، أو احتمال أخف المفسدتين.

و فروعها كثيرة حتى أن القاعدة الثانية تكاد تداخل هذه القاعدة.

فمنها: وجوب تمكين الإمام لينتفي به الظلم، و يقاتل المشركين و أعداء الدين.

و منها: صلح المشركين مع ضعف المسلمين، ورد مهاجريهم دون مهاجرينا، و جواز رد المعين، أو أخذ أرشه، ورد ما خالف الصفة أو الشرط، و فسخ البائع عند عدم سلامة شرطه من الضمين أو الرهن. و كذا فسخ النكاح بالعيوب.

و منها: الحجر على المفلس، و الرجوع في عين المال، و الحجر على الصغير، و السفيه، و المجنون، لدفع الضرر عن أنفسهم اللاحق بنقص مالهم.

و منها: شرعية الشفعة، و التغلظ على الغاصب بوجوب أرفع القيم، و تحمل مئونة الرد، و ضمان المنفعة بالفوات، و شرعية القصاص و الحدود، و قطع [يد] السارق في ربع دينار، مع أنها تضمن بيد مثلها أو خمسمائة‌ دينار، صيانة للدم و المال و قد نسب إلى المعري [1].

و من احتمال أخف المفسدتين: صلح المشركين، لأن فيه إدخال ضرر على المسلمين، و إعطاء الدنية في الدين، لكن في تركه قتل المؤمنين و المؤمنات الذين كانوا خاملين بمكة لا يعرفهم أكثر الصحابة، كما قال‌ اللّه تعالى وَ لَوْ لٰا رِجٰالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِسٰاءٌ مُؤْمِنٰاتٌ. « الفتح: 25. » الآية.

و في ذلك مفسدة عظيمة، و مضر «2» على المسلمين، و هي أشد من الأولى.

و منه: الإساغة بالخمر، لأن شرب الخمر مفسدة، إلا أن فوات النّفس أعظم منه، نظرا إلى عقوبتها. و كذا فوات النّفس أشد من أكل الميتة، و مال الغير.

و منه: إذا أكره على قتل مسلم محقون الدم بحيث يقتل لو امتنع من قتله، فإنه يصبر على القتل و لا يقتله، لأن صبره أخف من الإقدام على قتل مسلم لأن الإجماع على تحريم القتل «3» بغير حق، و الاختلاف في جواز الاستسلام للقتل «4». و لا كذا لو أكره على أخذ المال، لأن إتلاف نفسه أشد من إتلاف المال، فالفساد فيه أكثر. كذا لو أكره على شرب حرام، شربه، لكثرة الفساد في القتل.

فصل قد يقع «5» التخيير باعتبار تساوي الضرر، كمن أكره على أخذ درهم زيد أو عمرو، أو وجد في المخمصة «6» ميتين «7» أو حربيين‌ متساويين. و لو كان أحدهما قريبه قدم الأجنبي. كما يكره قتل قريبه في الجهاد.

و منه: تخيير الإمام في قتال أحد العدوين من جهتين مع تساويهما من كل وجه.

و يمكن التوقف في الواقع على «1» أطفال المسلمين، إن أقام على واحد قتله، و إن انتقل إلى آخر قتله.

و كذا لو هاج البحر و احتيج إلى إلقاء بعض المسلمين فلا أولوية.

و لو كان في السفينة مال أو حيوان ألقي قطعا. و لو كان في الأطفال من أبواه حربيان قدم.

و لو تقابلت المصلحة و المفسدة، فإن غلبت المفسدة درئت، كالحدود فإنها مفسدة بالنظر إلى الألم، و في تركها مفسدة أعظم، فتدرأ المفسدة العظمى باستيفائها، لأن في ذلك مراعاة للأصلح، و إليه الإشارة بقوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ.) الآية. « البقرة: 219. و تكملة الآية (. قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ، وَ إِثْمُهُمٰا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمٰا). ».

و إن غلبت المصلحة قدمت، كالصلاة مع النجاسة أو كشف العورة فإن فيه مفسدة، لما فيه من الإخلال بتعظيم اللّه تعالى في أن لا يناجي على تلك الأحوال، إلا أن تحصيل الصلاة أهم.

و منه: نكاح الحر الأمة، و قتل نساء الكفار و صبيانهم، و نبش القبور عند الضرورة، و تقرير الكتابي على دينه، و النّظر إلى العورة عند الضرورة.

و قد قيل «1»: منه: قطع فلذة من الفخذ لدفع الموت عن نفسه.

أما لدفع الموت عن غيره، فلا خلاف في عدم جوازه.

و من انغمار المصلحة في جنب المفسدة فيسقط اعتبار المصلحة: ردّ شهادة المتهم، و حكمه كالشاهد لنفسه و الحاكم لها، لأن قوة الداعي الطبيعي قادحة في الظن المستفاد من الوازع الشرعي قدحا ظاهرا لا يبقى معه إلا ظن ضعيف لا يصلح للاعتماد عليه. فالمصلحة الحاصلة بالشهادة و الحكم مغمورة في جنب هذه المفسدة. أما شهادته لصديقه أو قريبه «2» أو معرفيه فبالعكس، فإنه لو منع لأدى إلى فوات المصلحة العامة من الشهادة للناس، فانغمرت هذه التهمة في جنب هذه المصلحة «3» العامة إذ لا يشهد الإنسان إلا لمن يعرفه غالبا.

و منه: اشتمال العقد على مفسدة تترتب عليه ترتيبا قريبا، كبيع المصحف أو العبد المسلم من الكافر، و بيع السلاح لأعداء الدين، و يحتمل أيضا:

قطاع الطريق، و بيع الخشب ليعمل صنما، و العنب ليعمل «4» خمرا.