فیشهای قواعد فقه جلسه آخر-2
إعلام الموقعين عن رب العالمين: محمد بن أبي بكر الزرعي(ابن قيم الجوزية)، جلد سوم، صفحه 12 فصل في تغيير الفتوى ، واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد الشريعة مبنية على مصالح العباد هذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به ; فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها ، وحكمة كلها ; فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ، وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى البعث ; فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل ; فالشريعة عدل الله بين عباده ، ورحمته بين خلقه ، وظله في أرضه ، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها ، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون ، وهداه الذي به اهتدى المهتدون ، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل ، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام [ ص: 12 ] على سواء السبيل . فهي قرة العيون ، وحياة القلوب ، ولذة الأرواح ; فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة ، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها ، وحاصل بها ، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها ، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم ، وهي العصمة للناس وقوام العالم ، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا ، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقي من رسومها ; فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم ، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة . ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة . المثال الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله ، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره ، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله ، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم ; فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر ، { وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها ، وقالوا : أفلا نقاتلهم ؟ فقال : لا ، ما أقاموا الصلاة } وقال : { من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدا من طاعته } ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر ; فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه ; فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها ، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ، ومنعه من ذلك - مع قدرته عليه - خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر ، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد ; لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء . [ إنكار المنكر أربع درجات ] فإنكار المنكر أربع درجات ; الأولى : أن يزول ويخلفه ضده ، الثانية : أن يقل وإن لم يزل بجملته ، الثالثة : أن يخلفه ما هو مثله ، الرابعة : أن يخلفه ما هو شر منه ; فالدرجتان الأوليان مشروعتان ، والثالثة موضع اجتهاد ، والرابعة محرمة ; فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى [ ص: 13 ] ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك ، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد ، وإلا كان تركهم على ذلك خيرا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك فكان ما هم فيه شاغلا لهم عن ذلك ، وكما إذا كان الرجل مشتغلا بكتب المجون ونحوها وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى ، وهذا باب واسع ; وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول : مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر ، فأنكر عليهم من كان معي ، فأنكرت عليه ، وقلت له : إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم . فصل [ النهي عن قطع الأيدي في الغزو ] المثال الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم : { نهى أن تقطع الأيدي في الغزو } رواه أبو داود ، فهذا حد من حدود الله تعالى ، وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبا كما قاله عمر وأبو الدرداء وحذيفة وغيرهم ، وقد نص أحمد وإسحاق بن راهويه والأوزاعي وغيرهم من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدو ، وذكرها أبو القاسم الخرقي في مختصره فقال : لا يقام الحد على مسلم في أرض العدو ، وقد { أتى بشر بن أرطاة برجل من الغزاة قد سرق مجنه فقال : لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تقطع الأيدي في الغزو لقطعت يدك } ، رواه أبو داود ، وقال أبو محمد المقدسي : وهو إجماع الصحابة ، روى سعيد بن منصور في سننه بإسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه عن عمر كتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار . وعن أبي الدرداء مثل ذلك . وقال علقمة : كنا في جيش في أرض الروم ، ومعنا حذيفة بن اليمان ، وعلينا الوليد بن عقبة ، فشرب الخمر ، فأردنا أن نحده ، فقال حذيفة : أتحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم ؟ . وأتى سعد بن أبي وقاص بأبي محجن يوم القادسية وقد شرب الخمر ، فأمر به إلى القيد ، فلما التقى الناس قال أبو محجن : [ ص: 14 ] كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنا وأترك مشدودا علي وثاقيا فقال لابنة حفصة امرأة سعد : أطلقيني ولك والله علي إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد ، فإن قتلت استرحتم مني ، قال : فحلته حتى التقى الناس وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس ، قال : وصعدوا به فوق العذيب ينظر إلى الناس ، واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة ، فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء ، ثم أخذ رمحا ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم ، وجعل الناس يقولون : هذا ملك ، لما يرونه يصنع ، وجعل سعد يقول : الصبر صبر البلقاء ، والظفر ظفر أبي محجن ، وأبو محجن في القيد ، فلما هزم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد ، فأخبرت ابنة حفصة سعدا بما كان من أمره ، فقال سعد : لا والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى للمسلمين ما أبلاهم ، فخلى سبيله ، فقال أبو محجن : قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها ، فأما إذ بهرجتني فوالله لا أشربها أبدا ; وقوله : " إذ بهرجتني " أي أهدرتني بإسقاط الحد عني ، ومنه " بهرج دم ابن الحارث " أي أبطله ، وليس في هذا ما يخالف نصا ولا قياسا ولا قاعدة من قواعد الشرع ولا إجماعا ، بل لو ادعى أنه إجماع الصحابة كان أصوب . قال الشيخ في المغني : وهذا اتفاق لم يظهر خلافه . قلت : وأكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة إما من حاجة المسلمين إليه أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار ، وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة ، كما يؤخر عن الحامل والمرضع وعن وقت الحر والبرد والمرض ; فهذا تأخير لمصلحة المحدود ; فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى . فإن قيل : فما تصنعون بقول سعد : " والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى للمسلمين ما أبلاهم " فأسقط عنه الحد ؟ قيل : قد يتمسك بهذا من يقول : لا حد على مسلم في دار الحرب " كما يقول أبو حنيفة ، ولا حجة فيه ، والظاهر أن سعدا رضي الله عنه اتبع في ذلك سنة الله تعالى ; فإنه لما رأى تأثير أبي محجن في الدين وجهاده وبذله نفسه لله ما رأى درأ عنه الحد ; لأن ما أتى به من الحسنات غمرت هذه السيئة الواحدة وجعلتها كقطرة بحاسة وقعت في بحر ، ولا سيما وقد شام منه مخايل التوبة النصوح وقت القتال ; إذ لا يظن مسلم إصراره في ذلك الوقت [ ص: 15 ] الذي هو مظنة القدوم على الله وهو يرى الموت ، وأيضا فإنه بتسليم نفسه ووضع رجله في القيد اختيارا قد استحق أن يوهب له حده كما { قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له : يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي ، فقال : هل صليت معنا هذه الصلاة ؟ قال : نعم ، قال : اذهب فإن الله قد غفر لك حدك } وظهرت بركة هذا العفو والإسقاط في صدق توبته ، فقال : والله لا أشربها أبدا ، وفي رواية { أبد الأبد } وفي رواية { قد كنت آنف أن أتركها من أجل جلداتكم ، فأما إذ تركتموني فوالله لا أشربها أبدا } وقد برئ النبي صلى الله عليه وسلم مما صنع خالد ببني جذيمة ، وقال : { اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد } ولم يؤاخذه به لحسن بلائه ونصره للإسلام . [ سقوط الحد عن التائب ] ومن تأمل المطابقة بين الأمر والنهي والعقاب وارتباط أحدهما بالآخر علم فقه هذا الباب ، وإذا كان الله لا يعذب تائبا فهكذا الحدود لا تقام على تائب ، وقد نص الله على سقوط الحد عن المحاربين بالتوبة التي وقعت قبل القدرة عليهم مع عظيم جرمهم ، وذلك تنبيه على سقوط ما دون الحراب بالتوبة الصحيحة بطريق الأولى ، وقد روينا في سنن النسائي من حديث سماك عن علقمة بن وائل عن أبيه { أن امرأة وقع عليها في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروه على نفسها ، فاستغاثت برجل مر عليها ، وفر صاحبها ، ثم مر عليها ذوو عدد ، فاستغاثت بهم ، فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه ، وسبقهم الآخر ، فجاءوا يقودونه إليها ، فقال : أنا الذي أغثتك ، وقد ذهب الآخر قال : فأتوا به نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته أنه الذي وقع عليها ، وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد ، فقال : إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني ، فقالت : كذب ، هو الذي وقع علي ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : انطلقوا به فارجموه فقام رجل من الناس فقال : لا ترجموه وارجموني ، فأنا الذي فعلت بها الفعل ، فاعترف ، فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم : الذي وقع عليها ، والذي أغاثها ، والمرأة ، فقال : أما أنت فقد غفر لك وقال للذي أغاثها قولا حسنا ، فقال عمر : ارجم الذي اعترف بالزنى ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ; فقال : لأنه قد تاب إلى الله } رواه عن محمد بن يحيى بن كثير الحراني : ثنا عمرو بن حماد بن طلحة حدثنا أسباط بن نصر عن سماك ، وليس فيه بحمد الله إشكال . فإن قيل : فكيف أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برجم المغيث من غير بينة ولا إقرار ؟ [ ص: 16 ] اعتبار القرائن وشواهد الأحوال ] قيل : هذا من أدل الدلائل على اعتبار القرائن والأخذ بشواهد الأحوال في التهم ، وهذا يشبه إقامة الحدود بالرائحة والقيء كما اتفق عليه الصحابة ، وإقامة حد الزنا بالحبل كما نص عليه عمر وذهب إليه فقهاء أهل المدينة وأحمد في ظاهر مذهبه ، وكذلك الصحيح أنه يقام الحد على المتهم بالسرقة إذا وجد المسروق عنده ، فهذا الرجل لما أدرك وهو يشتد هربا وقالت المرأة : هذا هو الذي فعل بي ، وقد تعترف بأنه دنا منها وأتى إليها وادعى أنه كان مغيثا لا مريبا ، ولم ير أولئك الجماعة غيره ، كان في هذا أظهر الأدلة على أنه صاحبها ، وكان الظن المستفاد من ذلك لا يقصر عن الظن المستفاد من شهادة البينة ، واحتمال الغلط وعداوة الشهود كاحتمال الغلط أو عداوة المرأة ههنا ، بل ظن عداوة المرأة في هذا الموضع في غاية الاستبعاد ; فنهاية الأمر أن هذا ظاهر لا يستبعد ثبوت الحد بمثله شرعا كما يقتل في القسامة باللوث الذي لعله دون هذا في كثير من المواضع ; فهذا الحكم من أحسن الأحكام وأجراها على قواعد الشرع ، والأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينات والأقارير وشواهد الأحوال ، وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة ولا تنضبط أمر لا يقدح في كونها طرقا وأسبابا للأحكام ، والبينة لم تكن موجبة بذاتها للحد ، وإنما ارتباط الحد بها ارتباط المدلول بدليله ، فإن كان هناك دليل يقاومها أو أقوى منها لم يلغه الشارع ، وظهور الأمر بخلافه لا يقدح في كونه دليلا كالبينة والإقرار . وأما سقوط الحد عن المعترف فإذا لم يتسع له نطاق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأحرى أن لا يتسع له نطاق كثير من الفقهاء ، ولكن اتسع له نطاق الرءوف الرحيم ، فقال : إنه قد تاب إلى الله ، وأبى أن يحده ، ولا ريب أن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعا واختيارا خشية من الله وحده ، وإنقاذا لرجل مسلم من الهلاك ، وتقديم حياة أخيه على حياته واستسلامه للقتل أكبر من السيئة التي فعلها ، فقاوم هذا الدواء لذلك الداء ، وكانت القوة صالحة ، فزال المرض ، وعاد القلب إلى حال الصحة ، فقيل : لا حاجة لنا بحدك ، وإنما جعلناه طهرة ودواء ; فإذا تطهرت بغيره فعفونا يسعك ، فأي حكم أحسن من هذا الحكم وأشد مطابقة للرحمة والحكمة والمصلحة ؟ وبالله التوفيق . وقد روينا في سنن النسائي من حديث الأوزاعي : ثنا أبو عمار شداد قال : حدثني أبو أمامة { أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي ، فأعرض عنه ، ثم قال : إني أصبت حدا فأقمه علي ، فأعرض عنه ، ثم قال : يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي ، فأعرض عنه ، فأقيمت الصلاة ، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله إني [ ص: 17 ] أصبت حدا فأقمه علي ، قال : هل توضأت حين أقبلت ؟ قال : نعم ، قال : هل صليت معنا حين صلينا ؟ قال نعم ، قال : اذهب فإن الله قد عفا عنك } ، وفي لفظ { إن الله قد غفر لك ذنبك ، أو حدك } ، ومن تراجم النسائي على هذا الحديث " من اعترف بحد ولم يسمه " وللناس فيه ثلاث مسالك ، هذا أحدها ، والثاني أنه خاص بذلك الرجل ، والثالث سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة عليه ، وهذا أصح المسالك . فصل [ من أسباب سقوط الحد عام المجاعة ] المثال الثالث : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسقط القطع عن السارق في عام المجاعة ، قال السعدي : حدثنا هارون بن إسماعيل الخزاز ثنا علي بن المبارك ثنا يحيى بن أبي كثير حدثني حسان بن زاهر أن ابن حدير حدثه عن عمر قال : لا تقطع اليد في عذق ولا عام سنة . قال السعدي : سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال : العذق النخلة ، وعام سنة : المجاعة ، فقلت لأحمد : تقول به ؟ فقال : إي لعمري ، قلت : إن سرق في مجاعة لا تقطعه ؟ فقال : لا ، إذا حملته الحاجة على ذلك والناس في مجاعة وشدة . قال السعدي : وهذا على نحو قضية عمر في غلمان حاطب ، ثنا أبو النعمان عارم ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن حاطب أن غلمة لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة ، فأتى بهم عمر ، فأقروا ، فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء فقال له : إن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مزينة وأقروا على أنفسهم ، فقال عمر : يا كثير بن الصلت اذهب فاقطع أيديهم ، فلما ولى بهم ردهم عمر ثم قال : أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت أيديهم ، وايم الله إذا لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك ، ثم قال : يا مزني بكم أريدت منك ناقتك ؟ قال : بأربع مائة ، قال عمر : اذهب فأعطه ثماني مائة . وذهب أحمد إلى موافقة عمر في الفصلين جميعا ; في مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها السعدي بكتاب سماه المترجم ، قال : سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يحمل الثمر من أكمامه ، فقال : فيه الثمن مرتين وشرب نكال ، وقال : وكل من درأنا عنه الحد والقود أضعفنا عليه الغرم ، وقد وافق أحمد على سقوط القطع في المجاعة الأوزاعي ، وهذا محض القياس ، ومقتضى قواعد الشرع ; فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة ، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما [ ص: 18 ] يسد به رمقه ، ويجب على صاحب المال بذل ذلك له ، إما بالثمن أو مجانا ، على الخلاف في ذلك ; والصحيح وجوب بذله مجانا ; لوجوب المواساة وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج ، وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج ، وهي أقوى من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء ، بل إذا وازنت بين هذه الشبهة وبين ما يذكرونه ظهر لك التفاوت ، فأين شبهة كون المسروق مما يسرع إليه الفساد ، وكون أصله على الإباحة كالماء ، وشبهة القطع به مرة ، وشبهة دعوى ملكه بلا بينة ، وشبهة إتلافه في الحرز بأكل أو احتلاب من الضرع ، وشبهة نقصان ماليته في الحرز بذبح أو تحريق ثم إخراجه ، وغير ذلك من الشبه الضعيفة جدا إلى هذه الشبهة القوية ؟ لا سيما وهو مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه . وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون ، ولا يتميز المستغني منهم والسارق لغير حاجة من غيره ، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه ، فدرئ . نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به وهو مستغن عن السرقة قطع . فصل [ صدقة الفطر لا تتعين في أنواع ] المثال الرابع : { أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب أو صاعا من أقط } وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة ، فأما أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك فإنما عليهم صاع من قوتهم ، كمن قوتهم الذرة والأرز أو التين أو غير ذلك من الحبوب ، فإن كان قوتهم من غير الحبوب كاللبن واللحم والسمك أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائنا ما كان ، هذا قول جمهور العلماء ، وهو الصواب الذي لا يقال بغيره ; إذ المقصود سد خلة المساكين يوم العيد ومواساتهم من جنس ما يقتاته أهل بلدهم ، وعلى هذا فيجزئ إخراج الدقيق وإن لم يصح فيه الحديث ، وأما إخراج الخبز والطعام فإنه وإن كان أنفع للمساكين لقلة المؤنة والكلفة فيه فقد يكون الحب أنفع لهم لطول بقائه وأنه يتأتى منه ما لا يتأتى من الخبز والطعام ، ولا سيما إذا كثر الخبز والطعام عند المسكين فإنه يفسد ولا يمكنه حفظه ، وقد يقال : لا اعتبار بهذا ، فإن المقصود إغناؤهم في ذلك اليوم العظيم عن التعرض للسؤال ، كما قال النبي : { أغنوهم في هذا اليوم عن المسألة } وإنما نص على تلك الأنواع المخرجة لأن القوم لم يكونوا يعتادون اتخاذ الأطعمة يوم العيد ، بل كان قوتهم يوم العيد كقوتهم سائر السنة ; ولهذا لما كان قوتهم يوم عيد النحر من لحوم الأضاحي [ ص: 19 ] أمروا أن يطعموا منها القانع والمعتر ; فإذا كان أهل بلد أو محلة عادتهم اتخاذ الأطعمة يوم العيد جاز لهم ، بل يشرع لهم أن يواسوا المساكين من أطعمتهم ، فهذا محتمل يسوغ القول به ، والله أعلم . فصل [ هل يجب في المصراة رد صاع من تمر ؟ ] المثال الخامس : { أن النبي صلى الله عليه وسلم نص في المصراة على رد صاع من تمر بدل اللبن } ، فقيل : هذا حكم عام في جميع الأمصار ، حتى في المصر الذي لم يسمع أهله بالتمر قط ولا رأوه ; فيجب إخراج قيمة الصاع في موضع التمر ، ولا يجزئهم إخراج صاع من قوتهم ، وهذا قول أكثر الشافعية والحنابلة ، وجعل هؤلاء التمر في المصراة كالتمر في زكاة التمر لا يجزئ سواه ، فجعلوه تعبدا ، فعينوه اتباعا للفظ النص ، وخالفهم آخرون ، فقالوا : بل يخرج في كل موضع صاعا من قوت ذلك البلد الغالب ; فيخرج في البلاد التي قوتهم البر صاعا من بر ، وإن كان قوتهم الأرز فصاعا من أرز ، وإن كان الزبيب والتين عندهم كالتمر في موضعه أجزأ صاع منه ، وهذا هو الصحيح ، وهو اختيار أبي المحاسن الروياني وبعض أصحاب أحمد ، وهو الذي ذكره أصحاب مالك . قال القاضي أبو الوليد : روى ابن القاسم أن الصاع يكون من غالب قوت البلد ، قال صاحب الجواهر ، بعد حكاية ذلك : ووجهه أنه ورد في بعض ألفاظ هذا الحديث صاعا من طعام ; فيحمل تعيين صاع التمر في الرواية المشهورة على أنه غالب قوت ذلك البلد . انتهى . ولا ريب أن هذا أقرب إلى مقصود الشارع ومصلحة المتعاقدين من إيجاب قيمة صاع من التمر في موضعه ، والله أعلم . وكذلك حكم ما نص عليه الشارع من الأعيان التي يقوم غيرها مقامها من كل وجه أو يكون أولى منها كنصه على الأحجار في الاستجمار ، ومن المعلوم أن الخرق والقطن والصوف أولى منها بالجواز ، وكذلك نصه على التراب في الغسل من ولوغ الكلب والأشنان أولى منه ، هذا فيما علم مقصود الشارع منه ، وحصول ذلك المقصود على أتم الوجوه بنظيره وما هو أولى منه . فصل [ طواف الحائض بالبيت ] المثال السادس : { أن النبي صلى الله عليه وسلم منع الحائض من الطواف بالبيت حتى تطهر ، وقال : [ ص: 20 ] اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت } فظن من ظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال والأزمان ، ولم يفرق بين حال القدرة والعجز ، ولا بين زمن إمكان الاحتباس لها حتى تطهر وتطوف وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك ، وتمسك بظاهر النص ، ورأى منافاة الحيض للطواف كمنافاته للصلاة والصيام ; إذ نهي الحائض عن الجميع سواء ، ومنافاة الحيض لعبادة الطواف كمنافاته لعبادة الصلاة ، ونازعهم في ذلك فريقان ; أحدهما : صحح الطواف مع الحيض ، ولم يجعلوا الحيض مانعا من صحته ، بل جعلوا الطهارة واجبة تجبر بالدم ويصح الطواف بدونها كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهي أنصهما عنه ، وهؤلاء لم يجعلوا ارتباط الطهارة بالطواف كارتباطها بالصلاة ارتباط الشرط بالمشروط ، بل جعلوها واجبة من واجباته ، وارتباطها به كارتباط واجبات الحج به يصح فعله مع الإخلال بها ويجبرها الدم ، والفريق الثاني جعلوا وجوب الطهارة للطواف واشتراطها بمنزلة وجوب السترة واشتراطها ، بل بمنزلة سائر شروط الصلاة وواجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز ، قالوا : وليس اشتراط الطهارة للطواف أو وجوبها له أعظم من اشتراطها للصلاة ، فإذا سقطت بالعجز عنها فسقوطها في الطواف بالعجز عنها أولى وأحرى ، قالوا : وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تحتبس أمراء الحج للحيض حتى يطهرن ويطفن ، ولهذا { قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن صفية وقد حاضت أحابستنا هي ؟ قالوا : إنها قد أفاضت ، قال فلتنفر إذا } وحينئذ كانت الطهارة مقدورة لها يمكنها الطواف بها ، فأما في هذه الأزمان التي يتعذر إقامة الركب لأجل الحيض فلا تخلو من ثمانية أقسام ; أحدها أن يقال لها : أقيمي بمكة وإن رحل الركب حتى تطهري وتطوفي ، وفي هذا من الفساد وتعريضها للمقام وحدها في بلد الغربة مع لحوق غاية الضرر لها ما فيه ; الثاني أن يقال : يسقط طواف الإفاضة للعجز عن شرطه . الثالث : أن يقال : إذا علمت أو خشيت مجيء الحيض في وقته جاز لها تقديمه على وقته ; الرابع أن يقال : إذا كانت تعلم بالعادة أن حيضها يأتي في أيام الحج وأنها إذا حجت أصابها الحيض هناك سقط عنها فرضه حتى تصير آيسة وينقطع حيضها بالكلية ، الخامس أن يقال : بل تحج فإذا حاضت ولم يمكنها الطواف ولا المقام رجعت وهي على إحرامها تمتنع من النكاح ووطء الزوج حتى تعود إلى البيت فتطوف وهي طاهرة ، ولو كان بينها وبينه مسافة سنين ، ثم إذا أصابها الحيض في سنة العود رجعت كما هي ، ولا تزال كذلك كل عام حتى يصادفها عام تطهر فيه ; السادس أن يقال : بل تتحلل إذا عجزت عن المقام حتى تطهر كما يتحلل المحصر ، مع بقاء الحج في ذمتها ، فمتى قدرت على الحج لزمها ; ثم إذا أصابها [ ص: 21 ] ذلك أيضا تحللت ، وهكذا أبدا حتى يمكنها الطواف طاهرا ; السابع أن يقال : يجب عليها أن تستنيب من يحج عنها كالمعضوب ، وقد أجزأ عنها الحج ، وإن انقطع حيضها بعد ذلك ; الثامن أن يقال : بل تفعل ما تقدر عليه من مناسك الحج . ويسقط عنها ما تعجز عنه من الشروط والواجبات كما يسقط عنها طواف الوداع بالنص ، وكما يسقط عنها فرض السترة إذا شلحتها العبيد أو غيرهم ، وكما يسقط عنها فرض طهارة الجنب إذا عجزت عنها لعدم الماء أو مرض بها ، وكما يسقط فرض اشتراط طهارة مكان الطواف والسعي إذا عرض فيه نجاسة تتعذر إزالتها ، وكما يسقط شرط استقبال القبلة في الصلاة إذا عجز عنه ، وكما يسقط فرض القيام والقراءة والركوع والسجود إذا عجز عنه المصلي ، وكما يسقط فرض الصوم عن العاجز عنه إلى بدله وهو الإطعام ، ونظائر ذلك من الواجبات والشروط التي تسقط بالعجز عنها إما إلى بدل أو مطلقا ; فهذه ثمانية أقسام لا مزيد عليها ، ومن المعلوم أن الشريعة لا تأتي بسوى هذا القسم الثامن ; فإن القسم الأول وإن قاله من قال من الفقهاء فلا يتوجه ههنا ; لأن هذا الذي قالوه متوجه فيمن أمكنها الطواف ولم تطف ، والكلام في امرأة لا يمكنها الطواف ولا المقام لأجله ، وكلام الأئمة والفقهاء هو مطلق كما يتكلمون في نظائره ، ولم يتعرضوا لمثل هذه الصور التي عمت بها البلوى ، ولم يكن ذلك في زمن الأئمة ، بل قد ذكروا أن المكري يلزمه المقام والاحتباس عليها لتطهر ثم تطوف ، فإنه كان ممكنا بل واقعا في زمنهم ، فأفتوا ، بأنها لا تطوف حتى تطهر لتمكنها من ذلك ، وهذا لا نزاع فيه ولا إشكال ، فأما في هذه الأزمان فغير ممكن . وإيجاب سفرين كاملين في الحج من غير تفريط من الحاج ولا سبب صدر منه يتضمن إيجاب حجتين إلى البيت ، والله تعالى إنما أوجب حجة واحدة ، بخلاف من أفسد الحج فإنه قد فرط بفعل المحظور ، وبخلاف من ترك طواف الزيارة أو الوقوف بعرفة فإنه لم يفعل ما يتم حجته ، وأما هذه فلم تفرط ولم تترك ما أمرت به فإنها لم تؤمر بما لا تقدر عليه ، وقد فعلت ما تقدر عليه ; فهي بمنزلة الجنب إذا عجز عن الطهارة الأصلية والبدلية وصلى على حسب حاله ، فإنه لا إعادة عليه في أصح الأقوال ، وأيضا فهذه قد لا يمكنها السفر مرة ثانية فإذا قيل إنها تبقى محرمة إلى أن تموت ، فهذا ضرر لا يكون مثله في دين الإسلام ، بل يعلم بالضرورة أن الشريعة لا تأتي به . فصل وأما التقدير الثاني - وهو سقوط طواف الإفاضة - فهذا مع أنه لا قائل به فلا يمكن القول به ; فإنه ركن الحج الأعظم ، وهو الركن المقصود لذاته ، والوقوف بعرفة وتوابعه مقدمات له . [ ص: 22 ] فصل وأما التقدير الثالث - وهو أن تقدم طواف الإفاضة على وقته إذا خشيت الحيض في وقته - فهذا لا يعلم به قائل ، والقول به كالقول بتقديم الوقوف بعرفة على يوم عرفة ، وكلاهما مما لا سبيل إليه . فصل وأما التقدير الرابع - وهو أن يقال يسقط عنها فرض الحج إذا خشيت ذلك - فهذا وإن كان أفقه مما قبله من التقديرات فإن الحج يسقط لما هو دون هذا من الضرر - كما لو كان بالطريق أو بمكة خوف ، أو أخذ خفارة مجحفة أو غير مجحفة على أحد القولين ، أو لم يكن لها محرم - ولكنه ممتنع لوجهين ; أحدهما : أن لازمه سقوط الحج عن كثير من النساء أو أكثرهن ; فإنهن يخفن من الحيض وخروج الركب قبل الطهر ، وهذا باطل ; فإن العبادات لا تسقط بالعجز عن بعض شرائطها ولا عن بعض أركانها ، وغاية هذه أن تكون قد عجزت عن شرط أو ركن ، وهذا لا يسقط المقدور عليه ، قال الله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال صلى الله عليه وسلم : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } ولهذا وجبت الصلاة بحسب الإمكان ، وما عجز عنه من فروضها أو شروطها سقط عنه ; والطواف والسعي إذا عجز عنه ماشيا فعله راكبا اتفاقا ، والصبي يفعل عنه وليه ما يعجز عنه . الوجه الثاني : أن يقال في الكلام فيمن تكلفت وحجت وأصابها هذا العذر : فما يقول صاحب هذا التقدير حينئذ ؟ فإما أن يقول : تبقى محرمة حتى تعود إلى البيت ، أو يقول : تتحلل كالمحصر وبالجملة فالقول بعدم وجوب الحج على من تخاف الحيض لا يعلم به قائل ، ولا تقتضيه الشريعة ; فإنها لا تسقط مصلحة الحج التي هي من أعظم المصالح لأجل العجز عن أمر غايته أن يكون واجبا في الحج أو شرطا فيه ; فأصول الشريعة تبطل هذا القول . فصل وأما التقدير الخامس - وهي أن ترجع وهي على إحرامها ممتنعة من النكاح والوطء إلى أن تعود في العام المقبل ، ثم إذا أصابها الحيض رجعت كذلك ، وهكذا كل عام - فمما ترده أصول الشريعة وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة والإحسان ; فإن الله لم يجعل على الأمة على مثل هذا الحرج ، ولا ما هو قريب منه . فصل وأما التقدير السادس - وهو أنها تتحلل كما يتحلل المحصر - فهذا أفقه من التقدير [ ص: 23 ] الذي قبله ; فإن هذه منعها خوف المقام إتمام النسك ، فهي كمن منعها عدو عن الطواف بالبيت بعد التعريف ، ولكن هذا التقدير ضعيف ، فإن الإحصار أمر عارض للحاج بمنعه من الوصول إلى البيت في وقت الحج ، وهذه متمكنة من البيت ومن الحج من غير عدو ولا مرض ولا ذهاب نفقة ، وإذا جعلت هذه كالمحصر أوجبنا عليها الحج مرة ثانية مع خوف وقوع الحيض منها ، والعذر الموجب بالإحصار إذا كان قائما به منع من فرض الحج بنداء كإحاطة العدو بالبيت وتعذر النفقة ، وهذه عذرها لا يسقط فرض الحج علي ابتداء ; فلا يكون عروضه موجبا للتحلل كالإحصار ; فلازم هذا التقدير أنها إذا علمت أن هذا العذر يصيبها أو غلب على ظنها أن يسقط عنها فرض الحج فهو رجوع إلى التقدير الرابع فصل وأما التقدير السابع - وهو أن يقال : يجب عليها أن تستنيب من يحج عنها إذا خافت الحيض ، وتكون كالمعضوب العاجز عن الحج بنفسه فما أحسنه من تقدير لو عرف به قائل ; فإن هذه عاجزة عن إتمام نسكها ، ولكن هو باطل أيضا ; فإن المعضوب الذي يجب عليه الاستنابة هو الذي يكون آيسا من زوال عذره ، فلو كان يرجو زوال عذره كالمرض العارض والحبس لم يكن له أن يستنيب ، وهذه لا تيأس من زوال عذرها ; لجواز أن تبقى إلى زمن اليأس وانقطاع الدم أو أن دمها ينقطع قبل سن اليأس لعارض يفعلها أو يغير فعلها ; فليست كالمعضوب حقيقة ولا حكما . فصل فإذا بطلت هذه التقديرات تعين التقدير الثامن ، وهو أن يقال : تطوف بالبيت والحالة هذه ، وتكون هذه ضرورة مقتضية لدخول المسجد مع الحيض والطواف معه وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة ، بل يوافق كما تقدم ; إذ غايته سقوط الواجب أو الشرط بالعجز عنه ، ولا واجب في الشريعة مع عجز ، ولا حرام مع ضرورة . فإن قيل : في ذلك محذوران ; أحدهما : دخول الحائض المسجد وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { لا أحل المسجد لحائض ولا جنب } فكيف بأفضل المساجد ؟ الثاني : طوافها في حال الحيض وقد منعها الشارع منه كما منعها من الصلاة ، فقال : { اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت } فالذي منعها من الصلاة مع الحيض هو الذي منعها من الطواف معه . فالجواب عن الأول من أربعة أوجه : [ ص: 24 ] أحدها : أن الضرورة تبيح دخول المسجد للحائض والجنب ; فإنها لو خافت العدو أو من يستكرهها عن الفاحشة أو أخذ مالها ولم تجد ملجأ إلا دخول المسجد جاز لها دخوله مع الحيض ، وهذه تخاف ما هو قريب من ذلك ; فإنها تخاف إن أقامت بمكة أن يؤخذ مالها إن كان لها مال ، وإلا أقامت بغربة ضرورة ، وقد تخاف في إقامتها ممن يتعرض لها ، وليس لها من يدفع عنها . الجواب الثاني : أن طوافها بمنزلة مرورها في المسجد ، ويجوز للحائض المرور فيه إذا أمنت التلويث ، وهي في دورانها حول البيت بمنزلة مرورها ودخولها من باب وخروجها من آخر ; فإذا جاز مرورها للحاجة فطوافها للحاجة التي هي أعظم من حاجة المرور أولى بالجواز . يوضحه الوجه الثالث : أن دم الحيض في تلويثه المسجد كدم الاستحاضة ، والمستحاضة يجوز لها دخول المسجد للطواف إذا تلجمت اتفاقا ، وذلك لأجل الحاجة ، وحاجة هذه أولى . يوضحه الوجه الرابع : أن منعها من دخول المسجد للطواف كمنع الجنب ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بينهما في تحريم المسجد عليهما ، وكلاهما يجوز له الدخول عند الحاجة وسر المسألة أن قول النبي صلى الله عليه وسلم { لا تطوفي بالبيت } هل ذلك لأن الحائض ممنوعة من المسجد والطواف لا يكون إلا في المسجد ، أو أن عبادة الطواف لا تصح مع الحيض كالصلاة ، أو لمجموع الأمرين ، أو لكل واحد من الأمرين ؟ فهذه أربعة تقادير ، فإن قيل بالمعنى الأول لم يمنع صحة الطواف مع الحيض كما قاله أبو حنيفة ومن وافقه وكما هو إحدى الروايتين عن أحمد ، وعلى هذا فلا يمتنع الإذن لها في دخول المسجد لهذه الحاجة التي تلتحق بالضرورة ، ويقيد بها مطلق نهي النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس بأول مطلق قيد بأصول الشريعة وقواعدها ، وإن قيل بالمعنى الثاني فغايته أن تكون الطهارة شرطا من شروط الطواف ، فإذا عجزت عنها سقط اشتراطها كما لو انقطع دمها وتعذر عليها الاغتسال والتيمم فإنها تطوف على حسب حالها كما تصلي بغير طهور . فصل وأما المحذور الثاني - وهو طوافها مع الحيض والطواف كالصلاة - فجوابه من وجوه ; أحدها : أن يقال : لا ريب أن الطواف تجب فيه الطهارة وستر العورة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا يطوف بالبيت عريان } وقال الله تعالى : { خذوا زينتكم عند كل مسجد } [ ص: 25 ] وفي السنن مرفوعا وموقوفا { الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام ، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير } ولا ريب أن وجوب الطهارة وستر العورة في الصلاة آكد من وجوبها في الطواف ; فإن الصلاة بلا طهارة مع القدرة باطلة بالاتفاق ، وكذلك صلاة العريان ، وأما طواف الجنب والحائض والمحدث والعريان بغير عذر ففي صحته قولان مشهوران وإن حصل الاتفاق على أنه منهي عنه في هذا الحال ، بل وكذلك أركان الصلاة وواجباتها آكد من أركان الحج وواجباته ، فإن واجبات الحج إذا تركها عمدا لم يبطل حجه ، وواجبات الصلاة إذا تركها عمدا بطلت صلاته ، وإذا نقص من الصلاة ركعة عمدا لم تصح ، ولو طاف ستة أشواط صح ووجب عليه دم عند أبي حنيفة وغيره ، ولو نكس الصلاة لم تصح ، ولو نكس الطواف ففيه خلاف ، ولو صلى محدثا لم تصح صلاته ، ولو طاف محدثا أو جنبا صح في أحد القولين ، وغاية الطواف أن يشبه بالصلاة . وإذا تبين هذا فغاية هذه إذا طافت مع الحيض للضرورة أن تكون بمنزلة من طافت عريانة للضرورة ; فإن نهي الشارع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله عن الأمرين واحد ، بل الستارة في الطواف آكد من وجوه ; أحدها : أن طواف العريان منهي عنه بالقرآن والسنة وطواف الحائض منهي عنه بالسنة وحدها ; الثاني أن كشف العورة حرام في الطواف وخارجه ; الثالث : أن طواف العريان أقبح شرعا وعقلا وفطرة من طواف الحائض والجنب ; فإذا صح طوافها مع العري للحاجة فصحة طوافها مع الحيض للحاجة أولى وأحرى ، ولا يقال " فيلزمكم على هذا أن تصح صلاتها وصومها مع الحيض للحاجة " لأنا نقول : هذا سؤال فاسد ; فإن الحاجة لا تدعوها إلى ذلك بوجه من الوجوه ، وقد جعل الله سبحانه صلاتها زمن الطهر مغنية لها عن صلاتها في الحيض وكذلك صيامها ، وهذه لا يمكنها [ أن ] تتعوض في حال طهرها بغير البيت ، وهذا يبين سر المسألة وفقهها ، وهو أن الشارع قسم العبادات بالنسبة إلى الحائض إلى قسمين : قسم يمكنها التعوض عنه في زمن الطهر فلم يوجبه عليها في الحيض ، بل أسقطه إما مطلقا كالصلاة وإما إلى بدله زمن الطهر كالصوم . وقسم لا يمكن التعوض عنه ولا تأخيره إلى زمن الطهر فشرعه لها مع الحيض أيضا كالإحرام والوقوف بعرفة وتوابعه ، ومن هذا جواز قراءة القرآن لها وهي حائض ; إذ لا يمكنها التعوض عنها زمن الطهر ; لأن الحيض قد يمتد بها غالبه أو أكثره ، فلو منعت من القراءة لفاتت عليها مصلحتها ، وربما نسيت ما حفظته زمن طهرها ، وهذا مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد وأحد قولي الشافعي . والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع الحائض من قراءة القرآن ، وحديث { لا تقرأ الحائض والجنب شيئا من القرآن } لم يصح ; فإنه حديث معلول باتفاق أهل العلم بالحديث ، فإنه من [ ص: 26 ] رواية إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر . قال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة ، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول : إن إسماعيل بن عياش يروي عن أهل الحجاز وأهل العراق أحاديث مناكير ، كأنه يضعف روايته عنهم فيما ينفرد به ، وقال : إنما هو حديث إسماعيل بن عياش عن أهل الشام ، انتهى . وقال البخاري أيضا : إذا حدث عن أهل بلده فصحيح ، وإذا حدث عن غيرهم ففيه نظر ، وقال علي بن المديني : ما كان أحد أعلم بحديث أهل الشام من إسماعيل بن عياش لو ثبت في حديث أهل الشام ، ولكنه خلط في حديث أهل العراق ، وحدثنا عنه عبد الرحمن ثم ضرب على حديثه ; فإسماعيل عندي ضعيف ، وقال عبد الله بن أحمد : عرضت على أبي حديثا حدثناه الفضل بن زياد الضبي حدثنا ابن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر مرفوعا { لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن } فقال أبي : هذا باطل ، يعني أن إسماعيل وهم . وإذا لم يصح الحديث لم يبق مع المانعين حجة إلا القياس على الجنب ، والفرق الصحيح بينها وبين الجنب مانع من الإلحاق ، وذلك من وجوه ; أحدها : أن الجنب يمكنه التطهر متى شاء بالماء أو بالتراب فليس له عذر في القراءة مع الجنابة بخلاف الحائض ، والثاني : أن الحائض يشرع لها الإحرام والوقوف بعرفة وتوابعه مع الحيض بخلاف الجنب ، الثالث : أن الحائض يشرع لها أن تشهد العيد مع المسلمين وتعتزل المصلى بخلاف الجنب . وقد تنازع من حرم عليها القراءة : هل يباح لها أن تقرأ بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال ؟ على ثلاثه أقوال ; أحدها : المنع مطلقا وهو المشهور من مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد ; لأنها بعد انقطاع الدم تصير كالجنب ; الثاني : الجواز مطلقا وهو اختيار القاضي أبي يعلى ، قال : وهو ظاهر كلام أحمد ; والثالث : إباحته للنفساء وتحريمه على الحائض ، وهو اختيار الخلال ; فالأقوال الثلاثة في مذهب أحمد ، فإذا لم تمنع الحائض من قراءة القرآن لحاجتها إليه فعدم منعها في هذه الصورة عن الطواف الذي هي أشد حاجة إليه بطريق الأولى والأحرى فصل هذا إذا كان المنع من طوافها لأجل المنع من دخول المسجد أو لأجل الحيض ومنافاته للطواف ، فإن قيل بالتقدير الثالث وهو أنه لمجموع الأمرين بحيث إذا انفرد [ ص: 27 ] أحدهما لم يستقل بالتحريم ، أو بالتقدير الرابع وهو أن كلا منهما علة مستقلة كان الكلام على هذين التقديرين كالكلام على التقديرين الأولين ، وبالجملة فلا يمتنع تخصيص العلة لفوات شرط أو لقيام مانع ، وسواء قيل : إن وجود الشرط وعدم المانع من أجزاء العلة أو هو أمر خارج عنها ; فالنزاع لفظي فإن أريد بالعلة التامة فهما من أجزائها ، وإن أريد منها المقتضية كانا خارجين عنها . فإن قيل : الطواف كالصلاة ، ولهذا تشترط له الطهارة من الحدث ، وقد أشار إلى هذا بقوله في الحديث { الطواف بالبيت صلاة } والصلاة لا تشرع ولا تصح مع الحيض ، فهكذا شقيقها ومشبهها ، لأنها عبادة متعلقة بالبيت فلم تصح مع الحيض كالصلاة ، وعكسه الوقوف بعرفة وتوابعه . فالجواب أن القول باشتراط طهارة الحدث للطواف لم يدل عليه نص ولا إجماع ، بل فيه النزاع قديما وحديثا ; فأبو حنيفة وأصحابه لا يشترطون ذلك ، وكذلك أحمد في إحدى الروايتين عنه . قال أبو بكر في الشافي : باب في الطواف بالبيت غير طاهر ، قال أبو عبد الله في رواية أبي طالب : لا يطوف أحد بالبيت إلا طاهرا ، والتطوع أيسر ، ولا يقف مشاهد الحج إلا طاهرا ، وقال في رواية محمد بن الحكم : إذا طاف طواف الزيارة وهو ناس لطهارته حتى رجع فإنه لا شيء عليه ، واختار له أن يطوف وهو طاهر ، وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه على أن الرجل إذا طاف جنبا ناسيا صح طوافه ولا دم عليه ، وعنه رواية أخرى عليه دم وثالثة أنه لا يجزيه الطواف . وقد ظن بعض أصحابه أن هذا الخلاف عنه إنما هو في المحدث والجنب ، فأما الحائض فلا يصح طوافها قولا واحدا ; قال شيخنا : وليس كذلك ، بل صرح غير واحد من أصحابنا بأن الخلاف عنه في الحيض والجنابة . قال : وكلام أحمد يدل على ذلك ، ويبين أنه كان متوقفا في طواف الحائض وفي طواف الجنب ، قال عبد الملك الميموني في مسائله : قلت لأحمد : من طاف طواف الواجب على غير وضوء وهو ناس ثم واقع أهله ، قال : أخبرك مسألة فيها وهم مختلفون ، وذكر قول عطاء والحسن ، قلت : ما تقول أنت ؟ قال : دعها ، أو كلمة تشبهها . وقال الميموني في مسائله أيضا : قلت له : من سعى وطاف على غير طهارة ثم واقع أهله ، فقال لي : مسألة الناس فيها مختلفون ، وذكر قول ابن عمر ، وما يقول عطاء مما يسهل فيها ، وما يقول الحسن ، وأن عائشة قال لها النبي صلى الله عليه وسلم حين حاضت { افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت } ثم قال لي : إلا أن هذا أمر بليت به نزل عليها ليس من قبلها ، قلت : فمن الناس من يقول عليها الحج من قابل ، فقال لي : نعم كذا أكبر علمي ، قلت : ومنهم من يذهب إلى أن عليها دما ، [ ص: 28 ] فذكر تسهيل عطاء فيها خاصة ، وقال لي أبو عبد الله أولا وآخرا : هي مسألة مشتبهة فيها موضع نظر ، فدعني حتى أنظر فيها ، قال ذلك غير مرة ، ومن الناس من يقول : وإن رجع إلى بلده يرجع حتى يطوف ، قلت : والنسيان ، قال : النسيان أهون حكما بكثير ، يريد أهون ممن يطوف على غير طهارة متعمدا ، هذا لفظ الميموني قلت : وأشار أحمد إلى تسهيل عطاء إلى فتواه أن امرأة إذا حاضت في أثناء الطواف فإنها تتم طوافها ، وهذا تصريح منه أن الطهارة ليست شرطا في صحة الطواف ، وقد قال إسماعيل بن منصور : ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن عطاء قال : حاضت امرأة وهي تطوف مع عائشة أم المؤمنين ، فحاضت في الطواف ، فأتمت بها عائشة بقية طوافها هذا ، والناس إنما تلقوا منع الحائض من الطواف من حديث عائشة ، وقد دلت أحكام الشريعة على أن الحائض أولى بالعذر ، وتحصيل مصلحة العبادة التي تفوتها إذا تركتها مع الحيض من الجنب ، وهكذا إذا حاضت في صوم شهري التتابع لم ينقطع تتابعها بالاتفاق ، وكذلك تقضي المناسك كلها من أولها إلى آخرها مع الحيض بلا كراهة بالاتفاق سوى الطواف ; وكذلك تشهد العيد مع المسلمين بلا كراهة ، بالنص . وكذلك تقرأ القرآن إما مطلقا وإما عند خوف النسيان ; وإذا حاضت وهي معتكفة لم يبطل اعتكافها بل تتمه في رحبة المسجد . وسر المسألة ما أشار إليه صاحب الشرع بقوله : { إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم } وكذلك قال الإمام أحمد : هذا أمر بليت به نزل عليها ليس من قبلها ، والشريعة قد فرقت بينها وبين الجنب كما ذكرناه ; فهي أحق بأن تعذر من الجنب الذي طاف مع الجنابة ناسيا أو ذاكرا ; فإذا كان فيه النزاع المذكور فهي أحق بالجواز منه ; فإن الجنب يمكنه الطهارة وهي لا يمكنها ، فعذرها بالعجز والضرورة أولى من عذره بالنسيان ، فإن الناسي لما أمر به من الطهارة والصلاة يؤمر بفعله إذا ذكره ، بخلاف العاجز عن الشرط والركن فإنه لا يؤمر بإعادة العبادة معه إذا قدر عليه ; فهذه إذا لم يمكنها إلا الطواف على غير طهارة وجب عليها ما تقدر عليه وسقط عنها ما تعجز عنه ، كما قال تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } وهذه لا تستطيع إلا هذا ، وقد اتقت الله ما استطاعت ; فليس عليها غير ذلك بالنص وقواعد الشريعة ، والمطلق يقيد بدون هذا بكثير ، ونصوص أحمد وغيره من العلماء صريحة في أن الطواف ليس كالصلاة في اشتراط الطهارة ، وقد ذكرنا نصه في رواية محمد بن الحكم إذا طاف طواف الزيارة وهو ناس لطهارته حتى رجع فلا شيء عليه ، وأختار له أن يطوف وهو طاهر ، وإن وطئ فحجه ماض ولا شيء عليه ، وقد تقدم قول عطاء ، ومذهب أبي حنيفة صحة الطواف بلا طهارة [ ص: 29 ] وأيضا فإن الفوارق بين الطواف والصلاة أكثر من الجوامع ، فإنه يباح فيه الكلام والأكل والشرب والعمل الكثير ، وليس فيه تحريم ولا تحليل ولا ركوع ولا سجود ولا قراءة ولا تشهد ، ولا تجب له جماعة ، وإنما اجتمع هو والصلاة في عموم كونه طاعة وقربة ، وخصوص كونه متعلقا بالبيت ، وهذا لا يعطيه شروط الصلاة كما لا يعطيه واجباتها وأركانها . وأيضا فيقال : لا نسلم أن العلة في الأصل كونها عبادة متعلقة بالبيت ولم يذكروا على ذلك حجة واحدة ، والقياس الصحيح ما تبين فيه أن الوصف المشترك بين الأصل والفرع هو علة الحكم في الأصل أو دليل العلة ; فالأول قياس العلة ، والثاني قياس الدلالة . وأيضا فالطهارة إنما وجبت لكونها صلاة ، سواء تعلقت بالبيت أو لم تتعلق ، ولهذا وجبت النافلة في السفر إلى غير القبلة ، ووجبت حين كانت مشروعة إلى بيت المقدس ، ووجبت لصلاة الخوف إذا لم يمكن الاستقبال . وأيضا فهذا القياس ينتقض بالنظر إلى البيت ; فإنه عبادة متعلقة بالبيت ، وأيضا فهذا قياس معارض بمثله ، وهو أن يقال : عبادة من شرطها المسجد ، فلم تكن الطهارة شرطا فيها كالاعتكاف ، وقد قال الله تعالى : { أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود } وليس إلحاق الطائفين بالركع السجود أولى من إلحاقهم بالعاكفين ، بل إلحاقهم بالعاكفين أشبه ; فإن المسجد شرط في كل منهما بخلاف الركع السجود . فإن قيل : الطائف لا بد أن يصلي ركعتي الطواف ، والصلاة لا تكون إلا بطهارة . قيل : وجوب ركعتي الطواف فيه نزاع ، وإذا قيل بوجوبهما لم تجب الموالاة بينهما وبين الطواف ، وليس اتصالهما بأعظم من اتصال الصلاة بالخطبة يوم الجمعة ، ولو خطب محدثا ثم توضأ وصلى الجمعة جاز ; فجواز طوافه محدثا ثم يتوضأ ويصلي ركعتي الطواف أولى بالجواز ، وقد نص أحمد على أنه إذا خطب جنبا جاز . فصل [ حكم الطهارة للطواف ] وإذا ظهر أن الطهارة ليست شرطا في الطواف ، فإما أن تكون واجبة وإما أن تكون سنة ، وهما قولان للسلف والخلف ، ولكن من يقول هي سنة من أصحاب أبي حنيفة يقول : عليها دم ، وأحمد يقول : ليس عليها دم ولا غيره ، كما صرح به فيمن طاف جنبا وهو ناس ، [ ص: 30 ] قال شيخنا : فإذا طافت حائضا مع عدم العذر توجه القول بوجوب الدم عليها ، وأما مع العجز فهنا غاية ما يقال عليها دم ; والأشبه أنه لا يجب الدم ; لأن الطهارة واجب يؤمر به مع القدرة لا مع العجز ، فإن لزوم الدم إنما يكون مع ترك المأمور أو مع فعل المحظور ، وهذه لم تترك مأمورا في هذه الحال ولا فعلت محظورا ، فإنها إذا رمت الجمرة وقصرت حل لها ما كان محظورا عليها بالإحرام غير النكاح ; فلم يبق بعد التحلل الأول محظور يجب بفعله دم ، وليست الطهارة مأمورا بها مع العجز فيجب بتركها دم . فإن قيل : لو كان طوافها مع الحيض ممكنا أمرت بطواف القدوم وطواف الوداع ، فلما سقط عنها طواف القدوم والوداع على أن طوافها مع الحيض غير ممكن . قيل : لا ريب { أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط طواف القدوم عن الحائض ، وأمر عائشة لما قدمت وهي متمتعة فحاضت أن تدع أفعال العمرة وتحرم بالحج } فعلم أن الطواف مع الحيض محظور لحرمة المسجد أو للطواف أو لهما ، والمحظورات لا تباح إلا في حالة الضرورة ، ولا ضرورة بها إلى طواف القدوم ; لأنه سنة بمنزلة تحية المسجد ، ولا إلى طواف الوداع ; فإنه ليس من تمام الحج ، ولهذا لا يودع المقيم بمكة ، وإنما يودع المسافر عنها فيكون آخر عهده بالبيت ، فهذان الطوافان أمر بهما القادر عليهما إما أمر إيجاب فيهما أو في أحدهما أو استحباب كما هي أقوال معروفة ، وليس واحد منهما ركنا يقف صحة الحج عليه ، بخلاف طواف الفرض فإنها مضطرة إليه . وهذا كما يباح لها الدخول إلى المسجد واللبث فيه للضرورة ، ولا يباح لها الصلاة ، ولا الاعتكاف فيه وإن كان منذورا ، ولو حاضت المعتكفة خرجت من المسجد إلى فنائه فأتمت اعتكافها ولم يبطل ، وهذا يدل على أن منع الحائض من الطواف كمنعها من الاعتكاف ، وإنما هو لحرمة المسجد لا لمنافاة الحيض لعبادة الطواف والاعتكاف ، ولما كان الاعتكاف يمكن أن يفعل في رحبة المسجد وفنائه جوز لها إتمامه فيها لحاجتها ، والطواف لا يمكن إلا في المسجد ، وحاجتها في هذه الصورة إليه أعظم من حاجتها إلى الاعتكاف ، بل لعل حاجتها إلى ذلك أعظم من حاجتها إلى دخول المسجد واللبث فيه لبرد ومطر أو نحوه . وبالجملة فالكلام في هذه الحادثة في فصلين ; أحدهما : في اقتضاء قواعد الشريعة لها لا لمنافاتها ، وقد تبين ذلك بما فيه كفاية ، والثاني : في أن كلام الأئمة وفتاويهم في الاشتراط والوجوب إنما هو في حال القدرة والسعة لا في حال الضرورة والعجز ; فالإفتاء بها لا ينافي نص الشارع ، ولا قول الأئمة ، وغاية المفتي بها أنه يقيد مطلق كلام الشارع بقواعد [ ص: 31 ] شريعته وأصولها ، ومطلق كلام الأئمة بقواعدهم وأصولهم ، فالمفتي بها موافق لأصول الشرع وقواعده ، ولقواعد الأئمة ، وبالله التوفيق . فصل [ حكم جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد ] المثال السابع : أن المطلق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن خليفته أبي بكر وصدرا من خلافة عمر كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة ، كما ثبت ذلك في الصحيح عن ابن عباس ; فروى مسلم في صحيحه عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس : { كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم } ، وفي صحيحه أيضا عن طاوس أن أبا الصهباء قال لابن عباس : ألم تعلم { أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر } ؟ فقال ابن عباس : نعم " وفي صحيحه أيضا أن أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك ، { ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة ، فقال : قد كان ذلك ، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق ، فأجازه عليهم } . وفي سنن أبي داود عن طاوس أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس ، فقال : أما علمت { أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر رضي الله عنه ؟ قال ابن عباس : بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر ، فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال : أجيزوهن عليهم } . وفي مستدرك الحاكم من حديث عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس ، فقال : أتعلم { أن الثلاث كن يرددن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى واحدة } ؟ قال : نعم . قال الحاكم : هذا حديث صحيح ، وهذه غير طريق طاوس عن أبي الصهباء ، وقال الإمام أحمد في مسنده : ثنا سعد بن إبراهيم ، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال : حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس ، قال : { طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد ، فحزن عليها حزنا شديدا ، قال : فسأله رسول الله : كيف طلقتها ؟ قال : طلقتها ثلاثا ، قال : فقال : في مجلس واحد ؟ قال : نعم ، قال : فإنما تلك [ ص: 32 ] واحدة ، فأرجعها إن شئت ، قال : فراجعها } . فكان ابن عباس يرى إنما الطلاق عند كل طهر ، وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه فقال في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده { أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته على ابن أبي العاص بمهر جديد ونكاح جديد } : هذا حديث ضعيف ، أو قال : واه لم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب ، وإنما سمعه من محمد بن عبد الله العزرمي ، والعزرمي لا يساوي حديثه شيئا ، والحديث الذي رواه { أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح الأول } وإسناده عنده هو إسناد حديث ركانة بن عبد يزيد . هذا وقد قال الترمذي فيه : ليس بإسناده بأس ، فهذا إسناد صحيح عند أحمد ، وليس به بأس عند الترمذي ; فهو حجة ما لم يعارضه ما هو أقوى منه ، فكيف إذا عضده ما هو نظيره أو أقوى منه ؟ وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح ثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال : { طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة ، ونكح امرأة من مزينة ، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ، ففرق بيني وبينه ، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فدعا بركانة وإخوته ، ثم قال لجلسائه : أترون فلانا يشبه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانا منه كذا وكذا ؟ قالوا : نعم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد : طلقها ففعل ، فقال : راجع امرأتك أم ركانة وإخوته ، فقال : إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله قال : قد علمت ، راجعها ، وتلا : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } } . وقال أبو داود : حديث نافع بن جبير وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده { أن ركانة طلق امرأته فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم } أصح ، لأنهم ولد الرجل وأهله وأعلم به ، { وأن ركانة إنما طلق امرأته ألبتة ، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة } . قال شيخنا رضي الله عنه : وأبو داود لما لم يرو في سننه الحديث الذي في مسند أحمد - يعني الذي ذكرناه آنفا - فقال : حديث ألبتة أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثا ، لأنهم أهل بيته ، ولكن الأئمة الأكابر العارفون بعلل الحديث والفقه كالإمام أحمد وأبي عبيد والبخاري ضعفوا حديث ألبتة ، وبينوا أنه رواية قوم مجاهيل لم تعرف عدالتهم وضبطهم ، وأحمد أثبت حديث الثلاث ، وبين أنه الصواب ، وقال : حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته ألبتة ، وفي رواية عنه : حديث ركانة في البتة ليس بشيء ; لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن ركانة طلق امرأته ثلاثا ، وأهل المدينة يسمون الثلاث ألبتة ، قال الأثرم : قلت لأحمد : حديث ركانة في البتة ، فضعفه . والمقصود أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يخف عليه أن هذا هو السنة ، وأنه [ ص: 33 ] توسعة من الله لعباده ; إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة ، وما كان مرة بعد مرة لم يملك المكلف إيقاع مراته كلها جملة واحدة كاللعان ، فإنه لو قال : " أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين " كان مرة واحدة ، ولو حلف في القسامة وقال : " أقسم بالله خمسين يمينا أن هذا قاتله " كان ذلك يمينا واحدة ، ولو قال المقر بالزنا : " أنا أقر أربع مرات أني زنيت " كان مرة واحدة ; فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك إلا إقرارا واحدا ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { من قال في يومه سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر } فلو قال : { سبحان الله وبحمده مائة مرة } لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة ، وكذلك قوله : { من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، وحمده ثلاثا وثلاثين ، وكبره ثلاثا وثلاثين } الحديث ; لا يكون عاملا به حتى يقول ذلك مرة بعد مرة ، ولا يجمع الكل بلفظ واحد ، وكذلك قوله : { من قال في يومه لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة كانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي } لا يحصل هذا إلا بقولها مرة بعد مرة ، وهكذا قوله : { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات } وهكذا قوله في الحديث : { الاستئذان ثلاث مرات ، فإن أذن لك وإلا فارجع } لو قال الرجل ثلاث مرات هكذا كانت مرة واحدة حتى يستأذن مرة بعد مرة ، وهذا كما أنه في الأقوال والألفاظ فكذلك هو في الأفعال سواء ، كقوله تعالى : { سنعذبهم مرتين } إنما هو مرة بعد مرة ، وكذلك قول ابن عباس " رأى محمد ربه بفؤاده مرتين " إنما هو مرة بعد مرة ، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : { لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين } فهذا المعقول من اللغة والعرف في الأحاديث المذكورة ، وهذه النصوص المذكورة وقوله تعالى : { الطلاق مرتان } كلها من باب واحد ومشكاة واحدة ، والأحاديث المذكورة تفسر المراد من قوله : { الطلاق مرتان } كما أن حديث اللعان تفسير لقوله لقوله تعالى : { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } . فهذا كتاب الله ، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه لغة العرب ، وهذا عرف التخاطب ، وهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة كلهم معه في عصره وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب ; فلو عدهم العاد بأسمائهم واحدا واحدا لوجد أنهم كانوا يرون الثلاث واحدة إما بفتوى وإما بإقرار عليها ، ولو فرض فيهم من لم يكن يرى ذلك فإنه لم يكن منكرا للفتوى به ، بل كانوا ما بين مفت ومقر بفتيا وساكت غير منكر . وهذا حال كل صحابي من عهد الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر ، وهم يزيدون على الألف قطعا كما ذكره يونس بن [ ص: 34 ] بكير عن أبي إسحاق قال : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير قال : استشهد من المسلمين في وقعة اليمامة ألف ومائتا رجل منهم سبعون من القراء كلهم قد قرءوا القرآن ، وتوفي في خلافة الصديق فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن أبي بكر قال محمد بن إسحاق : فلما أصيب المسلمون من المهاجرين والأنصار باليمامة وأصيب فيهم عامة فقهاء المسلمين وقرائهم فزع أبو بكر إلى القرآن ، وخاف أن يهلك منه طائفة ، وكل صحابي من لدن خلافة الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر كان على أن الثلاث واحدة فتوى أو إقرارا أو سكوتا ، ولهذا ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم ، ولم تجمع الأمة ولله الحمد على خلافه ، بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنا بعد قرن ، وإلى يومنا هذا ، فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس كما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس : " إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحدة فهي واحدة " وأفتى أيضا بالثلاث ، أفتى بهذا وهذا . وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ، حكاه عنهما ابن وضاح ، وعن علي كرم الله وجهه وابن مسعود روايتان كما عن ابن عباس ، وأما التابعون فأفتى به عكرمة ، رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عنه ، وأفتى به طاوس ، وأما تابعو التابعين فأفتى به محمد بن إسحاق ، حكاه الإمام أحمد وغيره عنه ، وأفتى به خلاس بن عمرو والحارث العكلي ، وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه ، حكاه عنهم أبو المفلس وابن حزم وغيرهما ، وأفتى به بعض أصحاب مالك ، حكاه التلمساني في شرح تفريع ابن الجلاب قولا لبعض المالكية . وأفتى به بعض الحنفية ، حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل ، وأفتى به بعض أصحاب أحمد ، حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه ، قال : وكان الجد يفتي به أحيانا . وأما الإمام أحمد نفسه فقد قال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس : { كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر واحدة } بأي شيء تدفعه ؟ قال : برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه ، ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس أنها ثلاث ; فقد صرح بأنه إنما ترك القول به لمخالفة رواية له ، وأصل مذهبه وقاعدته التي بنى عليها أن الحديث إذا صح لم يرده لمخالفة رواية له ، بل الأخذ بما رواه ، كما فعل في رواية ابن عباس وفتواه في بيع الأمة فأخذ بروايته أنه لا يكون طلاقا ، وترك رأيه ، وعلى أصله يخرج له قول إن الثلاث واحدة ; فإنه إذا صرح بأنه إنما ترك الحديث لمخالفة الراوي وصرح في عدة مواضع أن مخالفة الراوي لا توجب ترك الحديث خرج له في المسألة قولان ، وأصحابه يخرجونه على مذهبه أقوالا دون ذلك بكثير . والمقصود أن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم ، ولم [ ص: 35 ] يأت بعده إجماع يبطله ، ولكن رأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق ، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة ; فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم ; ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل ، فإنه كان من أشد الناس فيه ، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق المحرم ، فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه . ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق وصدرا من خلافته كان الأليق بهم ; لأنهم لم يتتابعوا فيه ، وكانوا يتقون الله في الطلاق ، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا ، فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم ; فإن الله تعالى إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة ، ولم يشرعه كله مرة واحدة ، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله ، وظلم نفسه ، ولعب بكتاب الله ، فهو حقيق أن يعاقب ، ويلزم بما التزمه ، ولا يقر على رخصة الله وسعته ، وقد صعبها على نفسه ، ولم يتق الله ولم يطلق كما أمره الله وشرعه له ، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه رحمة منه وإحسانا ، ولبس على نفسه واختار الأغلظ والأشد ; فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان ، وعلم الصحابة رضي الله عنهم حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك فوافقوه على ما ألزم به ، وصرحوا لمن استفتاهم بذلك فقال عبد الله بن مسعود : من أتى الأمر على وجهه فقد بين له ، ومن لبس على نفسه جعلنا عليه لبسه ، والله لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله منكم ، هو كما تقولون . فلو كان وقوع الثلاث ثلاثا في كتاب الله وسنة رسوله لكان المطلق قد أتى الأمر على وجهه ، ولما كان قد لبس على نفسه ، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن فعل ذلك { تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم } ؟ ولما توقف عبد الله بن الزبير في الإيقاع وقال للسائل : إن هذا الأمر ما لنا فيه قول ، فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة ، فلما جاء إليهما قال ابن عباس لأبي هريرة : أفته فقد جاءتك معضلة ، ثم أفتياه بالوقوع . فالصحابة رضي الله عنهم ومقدمهم عمر بن الخطاب لما رأوا الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وأرسلوا ما بأيديهم منه ولبسوا على أنفسهم ولم يتقوا الله في التطليق الذي شرعه لهم وأخذوا بالتشديد على أنفسهم ولم يقفوا على ما حد لهم ألزموهم بما التزموه ، وأمضوا عليهم ما اختاروه لأنفسهم من التشديد الذي وسع الله عليهم ما شرعه لهم بخلافه ، ولا ريب أن من فعل هذا حقيق بالعقوبة بأن ينفذ عليه ما أنفذه على نفسه ; إذ لم يقبل رخصة الله وتيسيره ومهلته ، ولهذا قال ابن عباس لمن طلق مائة : عصيت ربك وبانت منك امرأتك ; إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا ، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ، وأتاه رجل فقال : إن عمي طلق ثلاثا ، فقال : إن عمك عصى الله فأندمه ، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا ، فقال : أفلا تحللها له ؟ فقال : من يخادع الله يخدعه . [ ص: 36 ] فليتدبر العالم الذي قصده معرفة الحق واتباعه من الشرع والقدر في قبول الصحابة هذه الرخصة والتيسير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقواهم ربهم تبارك وتعالى في التطليق ، فجرت عليهم رخصة الله وتيسيره شرعا وقدرا ، فلما ركب الناس الأحموقة ، وتركوا تقوى الله ، ولبسوا على أنفسهم ، وطلقوا على غير ما شرعه الله لهم ، أجرى الله على لسان الخليفة الراشد والصحابة معه شرعا وقدر إلزامهم بذلك ، وإنفاذه عليهم ، وإبقاء الإصر الذي جعلوه هم في أعناقهم كما جعلوه ، وهذه أسرار من أسرار الشرع والقدر لا تناسب عقول أبناء الزمن ، فجاء أئمة الإسلام ، فمضوا على آثار الصحابة سالكين مسلكهم ، قاصدين رضاء الله ورسوله وإنفاذ دينه . فمنهم من ترك القول بحديث ابن عباس لظنه أنه منسوخ ، وهذه طريقة الشافعي . قال : فإن كان معنى قول ابن عباس إن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة بمعنى أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فالذي يشبه أن يكون ابن عباس قد علم شيئا فنسخ . فإن قيل : فما دل على ما وصفت ؟ قيل : لا يشبه أن يكون ابن عباس قد يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يخالفه بشيء ولم يعلمه كان من النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف . فإن قيل : فلعل هذا شيء روي عن عمر فقال فيه ابن عباس بقول عمر . قيل : قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر في نكاح المتعة ، وبيع الدينار بالدينارين ، وبيع أمهات الأولاد ، فكيف يوافقه في شيء روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه ؟ فصل [ فتوى الصحابي على خلاف ما رواه ] قال المانعون من لزوم الثلاث : النسخ لا يثبت بالاحتمال ، ولا ترك الحديث الصحيح المعصوم لمخالفة راويه له ; فإن مخالفته ليست معصومة ، وقد قدم الشافعي رواية ابن عباس في شأن بريرة على فتواه التي تخالفها في كون بيع الأمة طلاقها ، وأخذ هو وأحمد وغيرهما بحديث أبي هريرة { من استقاء فعليه القضاء } وقد خالفه أبو هريرة وأفتى بأنه لا قضاء عليه ، وأخذوا برواية ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا بين الركنين } وصح عنه أنه قال : ليس الرمل بسنة ، وأخذوا برواية عائشة في منع الحائض من الطواف ، وقد صح عنها أن امرأة حاضت وهي تطوف معها فأتمت بها عائشة بقية طوافها ، رواه سعيد بن منصور : ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن عطاء ، فذكره ، وأخذوا برواية ابن عباس في تقديم الرمي والحلق والنحر بعضها على بعض ، وأنه لا حرج في [ ص: 37 ] ذلك ، وقد أفتى ابن عباس أن فيه دما ، فلم يلتفتوا إلى قوله وأخذوا بروايته ، وأخذت الحنفية بحديث ابن عباس { كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه } قالوا : وهذا صريح في طلاق المكره ، وقد صح عن ابن عباس : ليس لمكره ولا لمضطهد طلاق ، وأخذوا هم والناس بحديث ابن عمر أنه اشترى جملا شاردا بأصح سند يكون ، وأخذ الحنفية والحنابلة بحديث علي كرم الله وجهه وابن عباس { صلاة الوسطى صلاة العصر } وقد ثبت عن علي كرم الله وجهه وابن عباس أنها صلاة الصبح ، وأخذ الأئمة الأربعة وغيرهم بخبر عائشة في التحريم بلبن الفحل ، وقد صح عنها خلافه ، وأنه كان يدخل عليها من أرضعته بنات إخوتها ، ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها ، وأخذ الحنفية برواية عائشة { فرضت الصلاة ركعتين ركعتين } وصح عنها أنها أتمت الصلاة في السفر ، فلم يدعوا روايتها لرأيها ، واحتجوا بحديث جابر وأبي موسى في الأمر بالوضوء من الضحك في الصلاة ، وقد صح عنهما أنهما قالا : لا وضوء من ذلك ، وأخذ الناس بحديث عائشة في ترك إيجاب الوضوء مما مست النار ، وقد صح عن عائشة بأصح إسناد إيجاب الوضوء للصلاة من أكل كل ما مست النار ، وأخذ الناس بأحاديث عائشة وابن عباس وأبي هريرة في المسح على الخفين ، وقد صح عن ثلاثتهم المنع من المسح جملة ; فأخذوا بروايتهم وتركوا رأيهم . واحتجوا في إسقاط القصاص عن الأب بحديث عمر { لا يقتص لولد من والده } وقد قال عمر : لأقصن للولد من الوالد ; فلم يأخذوا برأيه بل بروايته ، واحتجت الحنفية والمالكية في أن الخلع طلاق بحديثين لا يصحان عن ابن عباس ، وقد صح عن ابن عباس بأصح إسناد يكون { أن الخلع فسخ لا طلاق } وأخذت الحنفية بحديث لا يصح بل هو من وضع حزام بن عثمان ومبشر بن عبيد الحلبي ، وهو حديث جابر { لا يكون صداق أقل من عشرة دراهم } وقد صح عن جابر جواز النكاح بما قل أو كثر ، واحتجوا هم وغيرهم على المنع من بيع أمهات الأولاد بحديث ابن عباس المرفوع ، وقد صح عنه جواز بيعهن ; فقدموا روايته التي لم تثبت على فتواه الصحيحة عنه ، وأخذت الحنابلة وغيرهم بخبر سعيد بن المسيب عن عمر أنه ألحق الولد بأبوين ، وقد خالفه سعيد بن المسيب ; فلم يعتدوا بخلافه ، وقد صح عن عمر وعثمان ومعاوية { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج } ، وصح عنهم النهي عن التمتع ، فأخذ الناس بروايتهم وتركوا رأيهم ، وأخذ الناس بحديث أبي هريرة في البحر { هو الطهور ماؤه الحل ميتته } وقد روى سعيد بن منصور في سننه عن أبي هريرة أنه قال : ماءان لا يجزئان في غسل الجنابة ماء البحر وماء الحمام ، وأخذت الحنابلة والشافعية بحديث أبي هريرة في الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب ، وقد صح عن أبي هريرة ما رواه سعيد بن منصور في [ ص: 38 ] سننه أن أبا هريرة سئل عن الحوض يلغ فيه الكلب ويشرب منه الحمار ، فقال : لا يحرم الماء شيء ، وأخذت الحنفية بحديث علي كرم الله وجهه { لا زكاة فيما زاد على المائتي درهم حتى يبلغ أربعين درهما } مع ضعف الحديث بالحسن بن عمارة ، وقد صح عن علي كرم الله وجهه أن ما زاد على المائتين ففيه الزكاة بحسابه ، رواه عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عنه . وهذا باب يطول تتبعه ، وترى كثيرا من الناس إذا جاء الحديث يوافق قول من قلده وقد خالفه رواية يقول : الحجة فيما روى ، لا في قوله ، فإذا جاء قول الراوي موافقا لقول من قلده والحديث بخلافه قال : لم يكن الراوي يخالف ما رواه إلا وقد صح عنده نسخه ، وإلا كان قدحا في عدالته ، فيجمعون في كلامهم بين هذا وهذا ، بل قد رأينا في الباب الواحد ، وهذا من أقبح التناقض ، والذي ندين لله به ولا يسعنا غيره وهو القصد في هذا الباب أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه ، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان لا رواية ولا غيره ; إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث ، أو لا يحضره وقت الفتيا ، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة ، أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا ، أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا في نفس الأمر ، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه ، ولو قدر انتفاء ذلك كله ، ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه ، لم يكن الراوي معصوما ، ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته ، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك . فصل [ وجه تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأحوال ] إذا عرف هذا فهذه المسألة مما تغيرت الفتوى بها بحسب الأزمنة كما عرفت ; لما رأته الصحابة من المصلحة ; لأنهم رأوا مفسدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا تندفع إلا بإمضائها عليهم ، فرأوا مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع ، ولم يكن باب التحليل الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله مفتوحا بوجه ما ، بل كانوا أشد خلق الله في المنع منه ، وتوعد عمر فاعله بالرجم ، وكانوا عالمين بالطلاق المأذون فيه وغيره ، وأما في هذه الأزمان التي قد شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل ، وقبح ما يرتكبه المحللون مما هو رمد بل عمى في عين الدين وشجى في حلوق المؤمنين : من قبائح تشمت أعداء الدين به [ ص: 39 ] وتمنع كثيرا ممن يريد الدخول فيه بسببه ، بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب ، ولا يحصرها كتاب ، يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح ، ويعدونها من أعظم الفضائح ، قد قلبت من الدين رسمه ، وغيرت منه اسمه ، وضمخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل ، وقد زعم أنه قد طيبها للحليل ، فيا لله العجب ، أي طيب أعارها هذا التيس الملعون ؟ وأي مصلحة حصلت لها ولمطلقها بهذا الفعل الدون ؟ أترون وقوف الزوج المطلق أو الولي على الباب والتيس الملعون قد حل إزارها وكشف النقاب وأخذ في ذلك المرتع والزوج أو الولي يناديه : لم يقدم إليك هذا الطعام لتشبع ، فقد علمت أنت والزوجة ونحن والشهود والحاضرون والملائكة الكاتبون ورب العالمين أنك لست معدودا من الأزواج ، ولا للمرأة أو أوليائها بك رضا ولا فرح ولا ابتهاج ، وإنما أنت بمنزلة التيس المستعار للضراب ، الذي لولا هذه البلوى لما رضينا وقوفك على الباب ; فالناس يظهرون النكاح ويعلنونه فرحا وسرورا ، ونحن نتواصى بكتمان هذا الداء العضال ونجعله أمرا مستورا ; بلا نثار ولا دف ولا خوان ولا إعلان ، بل التواصي بهس ومس والإخفاء والكتمان ; فالمرأة تنكح لدينها وحسبها ومالها وجمالها ، والتيس المستعار لا يسأل عن شيء من ذلك ، فإنه لا يمسك بعصمتها ، بل قد دخل على زوالها ، والله تعالى قد جعل كل واحد من الزوجين سكنا لصاحبه ، وجعل بينهما مودة ورحمة ليحصل بذلك مقصود هذا العقد العظيم ، وتتم بذلك المصلحة التي شرعه لأجلها العزيز الحكيم ، فسل التيس المستعار : هل له من ذلك نصيب ، أو هو من حكمة هذا العقد ومقصوده ومصلحته أجنبي غريب ؟ وسله : هل اتخذ هذه المصابة حليلة وفراشا يأوي إليه ؟ ثم سلها : هل رضيت به قط زوجا وبعلا تعول في نوائبها عليه ؟ وسل أولي التمييز والعقول : هل تزوجت فلانة بفلان ؟ وهل يعد هذا نكاحا في شرع أو عقل أو فطرة إنسان ؟ وكيف يلعن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من أمته نكح نكاحا شرعيا صحيحا ، ولم يرتكب في عقده محرما ولا قبيحا ؟ وكيف يشبهه بالتيس المستعار ، وهو من جملة المحسنين الأبرار ؟ وكيف تعير به المرأة طول دهرها بين أهلها والجيران ; وتظل ناكسة رأسها إذا ذكر ذلك التيس بين النسوان ؟ وسل التيس المستعار : هل حدث نفسه وقت هذا العقد الذي هو شقيق النفاق ، بنفقة أو كسوة أو وزن صداق ؟ وهل طمعت المصابة منه في شيء من ذلك ، أو حدثت نفسها به هنالك ؟ وهل طلب منها ولدا نجيبا واتخذته عشيرا وحبيبا ؟ وسل عقول العالمين وفطرهم : هل كان خير هذه الأمة أكثرهم تحليلا ، أو كان المحلل الذي لعنه الله ورسوله أهداهم سبيلا ؟ وسل التيس المستعار ومن ابتليت به : هل تجمل أحد منهما بصاحبه كما يتجمل الرجال بالنساء والنساء بالرجال ، أو كان لأحدهما [ ص: 40 ] رغبة في صاحبه بحسب أو مال أو جمال ؟ وسل المرأة : هل تكره أن يتزوج عليها هذا التيس المستعار أو يتسرى ، أو تكره أن تكون تحته امرأة غيرها أخرى ، أو تسأله عن ماله وصنعته أو حسن عشرته وسعة نفقته ؟ وسل التيس المستعار : هل سأل قط عما يسأله عنه من قصد حقيقة النكاح ، أو يتوسل إلى بيت أحمائه بالهدية والحمولة والنقد الذي يتوسل به خاطب الملاح ؟ وسله : هل هو أبو يأخذ أو أبو يعطي ؟ وهل قوله عند قراءة أبي جاد هذا العقد : خذي نفقة هذا العرس أو حطي ؟ وسله : هل تحمل من كلفة هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو حطي ؟ ] وسله عن وليمة عرسه : هل أولم ولو بشاة ؟ وهل دعا إليها أحدا من أصحابه فقضى حقه وأتاه ؟ وسله : هل تحمل من كلفة هذا العقد ما يتحمله المتزوجون ، أم جاءه كما جرت به عادة الناس الأصحاب والمهنئون ؟ وهل قيل له بارك الله لكما وعليكما وجمع بينكما في خير وعافية ، أم لعن الله المحلل والمحلل له لعنة تامة وافية ؟ . فصل ثم سل من له أدنى اطلاع على أحوال الناس : كم من حرة مصونة أنشب فيها المحلل مخالب إرادته فصارت له بعد الطلاق من الأخدان وكان بعلها منفردا بوطئها فإذا هو والمحلل فيها ببركة التحليل شريكان ؟ فلعمر الله كم أخرج التحليل مخدرة من سترها إلى البغاء ، وألقاها بين براثن العشراء والحرفاء ؟ ولولا التحليل لكان منال الثريا دون منالها ، والتدرع بالأكفان دون التدرع بجمالها ، وعناق القنا دون عناقها ، والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ بساقها ، وسل أهل الخبرة : كم عقد المحلل على أم وابنتها ؟ وكم جمع ماءه في أرحام ما زاد على الأربع وفي رحم الأختين ؟ وذلك محرم باطل في المذهبين ، وهذه المفسدة في كتب مفاسد التحليل لا ينبغي أن تفرد بالذكر وهي كموجة واحدة من الأمواج ، ومن يستطيع عد أمواج البحر ؟ ، وكم من امرأة كانت قاصرة الطرف على بعلها ، فلما ذاقت عسيلة المحلل خرجت على وجهها فلم يجتمع شمل الإحصان والعفة بعد ذلك بشملها ، وما كان هذا سبيله فكيف يحتمل أكمل الشرائع وأحكمها تحليله ؟ فصلوات الله وسلامه على من صرح بلعنته ، وسماه بالتيس المستعار من بين فساق أمته ، كما شهد به علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعبد الله بن مسعود وأبو هريرة وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر وعبد الله بن عباس وأخبر عبد الله بن عمر أنهم كانوا يعدونه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفاحا . أما ابن مسعود ففي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وجامع الترمذي عنه قال : { لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له } قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وقال سفيان [ ص: 41 ] الثوري : حدثني أبو قيس الأودي عن هزيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود قال : { لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة ، والواصلة والموصولة ، والمحلل والمحلل له ، وآكل الربا وموكله } ورواه النسائي والإمام أحمد ، وروى الترمذي عنه { لعن المحلل } وصححه ، ثم قال : والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر ، وهو قول الفقهاء من التابعين ، ورواه الإمام أحمد من حديث أبي الواصل عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم { لعن المحلل والمحلل له } ، وفي مسند الإمام أحمد والنسائي من حديث الأعمش عن عبد الله بن مرة عن الحارث عن ابن مسعود قال : { آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه إذا علموا به ، والواصلة والمستوشمة ، ولاوي الصدقة والمعتدي فيها ، والمرتد على عقبيه أعرابيا بعد هجرته ، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة } . وأما حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ففي المسند وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث الشعبي عن الحارث عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه لعن المحلل والمحلل له } . وأما حديث أبي هريرة ففي المسند للإمام أحمد ومسند أبي بكر بن أبي شيبة من حديث عثمان بن الأخنسي عن المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لعن الله المحلل والمحلل له } قال يحيى بن معين : عثمان بن الأخنسي ثقة ، والذي رواه عنه عبد الله بن جعفر المخرمي ثقة من رجال مسلم ، وثقه أحمد ويحيى وعلي وغيرهم ; فالإسناد جيد ، وفي كتاب العلل للترمذي : ثنا محمد بن يحيى ثنا معلى بن منصور عن عبد الله بن جعفر المخرمي عن عثمان بن محمد الأخنسي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { لعن المحلل والمحلل له } قال الترمذي : سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث ، فقال : هو حديث حسن ، وعبد الله بن جعفر المخرمي صدوق ، وعثمان بن محمد الأخنسي ثقة ، وكنت أظن أن عثمان لم يسمع من سعيد المقبري ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : هذا إسناد جيد . وأما حديث جابر بن عبد الله ففي جامع الترمذي من حديث مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { لعن المحلل والمحلل له } ومجالد وإن كان غيره أقوى منه فحديثه شاهد ومقو . وأما حديث عقبة بن عامر ففي سنن ابن ماجه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : هو المحلل ، لعن الله المحلل والمحلل له } رواه الحاكم في صحيحه من حديث الليث بن [ ص: 42 ] سعد عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر ، فذكره ، وقد أعل هذا الحديث بثلاث علل ; إحداها : أن أبا حاتم البستي ضعف مشرح بن هاعان . ، والعلة الثانية ما حكاه الترمذي في كتاب العلل عن البخاري فقال : سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن حديث عبد الله بن صالح حدثني الليث عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ألا أخبركم بالتيس المستعار ، هو المحلل والمحلل له ، ولعن الله المحلل والمحلل له } فقال : عبد الله بن صالح لم يكن أخرجه في أيامنا ، ما أرى الليث سمعه من مشرح بن هاعان ; لأن حيوة يروي عن بكر بن عمرو عن مشرح . والعلة الثالثة : ما ذكرها الجوزجاني في ترجمته فقال : كانوا ينكرون على عثمان هذا الحديث إنكارا شديدا ; فأما العلة الأولى فقال محمد بن عبد الواحد المقدسي : مشرح قد وثقه يحيى بن معين في رواية عثمان بن سعيد ، وابن معين أعلم بالرجال من ابن حبان ، قلت : وهو صدوق عند الحفاظ ، لم يتهمه أحد ألبتة ، ولا أطلق عليه أحد من أهل الحديث قط أنه ضعيف ، ولا ضعفه ابن حبان ، وإنما يقال : يروي عن عقبة بن عامر مناكير لا يتابع عليها ; فالصواب ترك ما انفرد به ، وانفرد ابن حبان من بين أهل الحديث بهذا القول فيه ، وأما العلة الثانية فعبد الله بن صالح قد صرح بأنه سمعه من الليث ، وكونه لم يخرجه وقت اجتماع البخاري به لا يضره شيئا ; وأما قوله : " إن حيوة يروي عن بكر بن عمرو بن شريح المصري عن مشرح " فإنه يريد [ به ] أن حيوة من أقران الليث أو أكبر منه ، وإنما روى عن بكر بن عمرو عن مشرح ، وهذا تعليل قوي ، ويؤكده أن الليث قال " قال مشرح " ولم يقل حدثنا ، وليس بلازم ; فإن الليث كان معاصرا لمشرح وهو في بلده ، وطلب الليث العلم وجمعه لم يمنعه أن لا يسمع من مشرح حديثه عن عقبة بن عامر وهو معه في البلد . وأما التعليل الثالث فقال شيخ الإسلام : إنكار من أنكر هذا الحديث على عثمان غير جيد ، وإنما هو لتوهم انفراده به عن الليث وظنهم أنه لعله أخطأ فيه حيث لم يبلغهم عن غيره من أصحاب الليث ، كما قد يتوهم بعض من يكتب الحديث أن الحديث إذا انفرد به عن الرجل من ليس بالمشهور من أصحابه كان ذلك شذوذا فيه وعلة قادحة ، وهذا لا يتوجه ههنا لوجهين : أحدهما : أنه قد تابعه عليه أبو صالح كاتب الليث عنه ، رويناه من حديث أبي بكر القطيعي ثنا جعفر بن محمد الفريابي حدثني العباس المعروف بأبي فريق ثنا أبو صالح حدثني الليث به ، فذكره ، ورواه أيضا الدارقطني في سننه : ثنا أبو بكر الشافعي ثنا إبراهيم بن الهيثم أخبرنا أبو صالح ، فذكره . الثاني : أن عثمان بن صالح هذا المصري نفسه روى عنه البخاري في صحيحه ، وروى عنه ابن معين وأبو حاتم الرازي ، وقال : هو شيخ صالح سليم التأدية ، قيل [ ص: 43 ] له : كان يلقن ؟ قال : لا ، ومن كان بهذه المثابة كان ما ينفرد به حجة ، وإنما الشاذ ما خالف به الثقات ، لا ما انفرد به عنهم ، فكيف إذا تابعه مثل أبي صالح وهو كاتب الليث وأكثر الناس حديثا عنه ؟ وهو ثقة أيضا ، وإن كان قد وقع في بعض حديثه غلط ، ومشرح بن هاعان قال فيه ابن معين : ثقة ، وقال فيه الإمام أحمد : هو معروف ; فثبت أن هذا الحديث حديث جيد وإسناده حسن ، انتهى . قال الشافعي : ليس الشاذ أن ينفرد الثقة عن الناس بحديث ، إنما الشاذ أن يخالف ما رواه الثقات . وأما حديث عبد الله بن عباس فرواه ابن ماجه في سننه عنه قال : { لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له } وفي إسناده زمعة بن صالح ، وقد ضعفه قوم ، ووثقه آخرون ، وأخرج له مسلم في صحيحه مقرونا بآخر ، وعن ابن معين فيه روايتان . وأما حديث عبد الله بن عمر ففي صحيح الحاكم من حديث ابن أبي مريم ، حدثنا أبو غسان عن عمرو بن نافع عن أبيه قال : { جاء رجل إلى ابن عمر ، فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا ، فتزوجها أخ له من غير مؤامرة بينه ليحلها لأخيه : هل تحل للأول ؟ قال : لا ، إلا نكاح رغبة ، كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم } ، قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وقال سعيد في سننه : ثنا محمد بن نشيط البصري قال : قال بكر بن عبد الله المزني : لعن المحلل والمحلل له ، وكان يسمى في الجاهلية التيس المستعار وعن الحسن البصري قال : كان المسلمون يقولون : هذا التيس المستعار . فصل فسل هذا التيس : هل دخل في قوله تعالى : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } وهل دخل في قوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } وهل دخل في قوله صلى الله عليه وسلم : { من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج } وهل دخل في قوله صلى الله عليه وسلم : { تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة } وهل دخل في قوله صلى الله عليه وسلم : { أربع من سنن المرسلين : النكاح ، والتعطر ، والختان ، وذكر الرابعة } وهل دخل في قوله صلى الله عليه وسلم : { النكاح سنتي ; فمن رغب عن سنتي فليس مني } وهل دخل في قول ابن عباس : خير هذه الأمة أكثرها نساء ؟ وهل له نصيب من قوله صلى الله عليه وسلم : { ثلاثة حق على الله عونهم : الناكح يريد العفاف ، والمكاتب يريد الأداء } وذكر الثالث ، أم حق على الله لعنته تصديقا لرسوله فيما أخبر عنه ؟ وسله : هل يلعن الله ورسوله من يفعل مستحبا أو جائزا أو مكروها أو صغيرة ، أم لعنته مختصة بمن ارتكب كبيرة أو ما هو [ ص: 44 ] أعظم منها ؟ كما قال ابن عباس : كل ذنب ختم بلعنة أو غضب أو عذاب أو نار فهو كبيرة ، وسله : هل كان في الصحابة محلل واحد أو أقر رجل منهم على التحليل ؟ وسله لأي شيء قال عمر بن الخطاب : لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما . وسله : كيف تكون المتعة حراما نصا مع أن المستمتع له غرض في نكاح الزوجة إلى وقت لكن لما كان غير داخل على النكاح المؤبد كان مرتكبا للمحرم ؟ فكيف يكون نكاح المحلل الذي إنما قصده أن يمسكها ساعة من زمان أو دونها ، ولا غرض له في النكاح ألبتة ؟ بل قد شرط انقطاعه وزواله إذا أخبثها بالتحليل ، فكيف يجتمع في عقل أو شرع تحليل هذا وتحريم المتعة ؟ هذا مع أن المتعة أبيحت في أول الإسلام ، وفعلها الصحابة ، وأفتى بها بعضهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، ونكاح المحلل لم يبح في ملة من الملل قط ولم يفعله أحد من الصحابة ، ولا أفتى به واحد منهم ؟ وليس الغرض بيان تحريم هذا العقد وبطلانه وذكر مفاسده وشره ، فإنه يستدعي سفرا ضخما نختصر فيه الكلام ، وإنما المقصود أن هذا شأن التحليل عند الله ورسوله وأصحاب رسوله ، فألزمهم عمر بالطلاق الثلاث إذا جمعوها ليكفوا عنه إذا علموا أن المرأة تحرم به ، وأنه لا سبيل إلى عودها بالتحليل ، فلما تغير الزمان ، وبعد العهد بالسنة وآثار القوم ، وقامت سوق التحليل ونفقت في الناس ; فالواجب أن يرد الأمر إلى ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته من الإفتاء بما يعطل سوق التحليل أو يقللها ويخفف شرها ، وإذا عرض على من وفقه الله وبصره بالهدى وفقهه في دينه مسألة كون الثلاث واحدة ومسألة التحليل ووازن بينهما تبين له التفاوت ، وعلم أي المسألتين أولى بالدين وأصلح للمسلمين . فهذه حجج المسألتين قد عرضت عليك ، وقد أهديت إن قبلتها إليك ، وما أظن عمى التقليد إلا يزيد الأمر على ما هو عليه ، ولا يدع التوفيق يقودك اختيارا إليه ، وإنما أشرنا إلى المسألتين إشارة تطلع العالم على ما وراءها ، وبالله التوفيق . فصل فقد تبين لك أمر مسألة من المسائل التي تمنع التحليل ، أفتى بها المفتي ، وقد قال بها بعض أهل العلم ; فهي خير من التحليل ، حتى لو أفتى المفتي بحلها بمجرد العقد من غير وطء ، لكان أعذر عند الله من أصحاب التحليل ، وإن اشترك كل منهما في مخالفة النص ; فإن النصوص المانعة من التحليل المصرحة بلعن فاعله كثيرة جدا ، والصحابة والسلف مجمعون عليها ، والنصوص المشترطة للدخول لا تبلغ مبلغها ، وقد اختلف فيها التابعون ; [ ص: 45 ] فمخالفتها أسهل من مخالفة أحاديث التحليل ، والحق موافقة جميع النصوص ، وأن لا يترك منها شيء ، وتأمل كيف كان الأمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر الصديق من كون الثلاث واحدة والتحليل ممنوع منه ، ثم صار في بقية خلافة عمر الثلاث ثلاث والتحليل ممنوع منه ، وعمر من أشد الصحابة فيه ، وكلهم على مثل قوله فيه ، ثم صار في هذه الأزمنة التحليل كثيرا مشهورا والثلاث ثلاثا . وعلى هذا فيمتنع في هذه الأزمنة معاقبة الناس بما عاقبهم به عمر من وجهين : أحدهما : أن أكثرهم لا يعلم أن جمع الثلاث حرام ، لا سيما وكثير من الفقهاء لا يرى تحريمه ، فكيف يعاقب من لم يرتكب محرما عند نفسه ؟ الثاني : أن عقوبتهم بذلك تفتح عليهم باب التحليل الذي كان مسدودا على عهد الصحابة ، والعقوبة إذا تضمنت مفسدة أكثر من الفعل المعاقب عليه كان تركها أحب إلى الله ورسوله ، ولو فرضنا أن التحليل مما أباحته الشريعة ومعاذ الله لكان المنع منه إذا وصل إلى هذا الحد الذي قد تفاحش قبحه من باب سد الذرائع ، وتعين على المفتين والقضاة المنع منه جملة ، وإن فرض أن بعض أفراده جائز ; إذ لا يستريب أحد في أن الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق وصدر من خلافة عمر أولى من الرجوع إلى التحليل ، والله الموفق . فصل [ موجبات الأيمان والأقارير والنذور ] المثال الثامن : مما تتغير به الفتوى لتغير العرف والعادة : موجبات الأيمان والإقرار والنذور وغيرها ; فمن ذلك أن الحالف إذا حلف " لا ركبت دابة " وكان في بلد عرفهم في لفظ الدابة الحمار خاصة اختصت يمينه به ، ولا يحنث بركوب الفرس ولا الجمل ، وإن كان عرفهم في لفظ الدابة الفرس خاصة حملت يمينه عليها دون الحمار ، وكذلك إن كان الحال ممن عادته ركوب نوع خاص من الدواب كالأمراء ومن جرى مجراهم حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدواب ; فيفتى في كل بلد بحسب عرف أهله . ويفتى كل أحد بحسب عادته ، وكذلك إذا حلف " لا أكلت رأسا " في بلد عادتهم أكل رءوس الضأن خاصة لم يحنث بأكل رءوس الطير والسمك ونحوها ، وإن كان عادتهم أكل رءوس السمك حنث بأكل رءوسها ، وكذلك إذا حلف لا اشتريت كذا ولا بعته ولا حرثت هذه الأرض ولا زرعتها ونحو ذلك ، وعادته أن لا يباشر ذلك بنفسه كالملوك حنث قطعا بالإذن والتوكيل فيه ، فإنه [ ص: 46 ] نفس ما حلف عليه . وإن كان عادته مباشرة ذلك بنفسه كآحاد الناس فإن قصد منع نفسه من المباشرة لم يحنث بالتوكيل ، وإن قصد عدم الفعل والمنع منه جملة حنث بالتوكيل ، وإن أطلق اعتبر سبب اليمين وبساطها وما هيجها ، وعلى هذا إذا أقر الملك أو أغنى أهل البلد لرجل بمال كثير لم يقبل تفسيره بالدرهم والرغيف ونحوه مما يتمول ، فإن أقر به فقير يعد عنده الدرهم والرغيف كثيرا قبل منه ، وعلى هذا إذا قيل له : جاريتك أو عبدك يرتكبان الفاحشة ، فقال : ليس كذلك ، بل هما حران لا أعلم عليهما فاحشة ; فالحق المقطوع به أنهما لا يعتقان بذلك ، لا في الحكم ولا فيما بينه وبين الله تعالى ; فإنه لم يرد ذلك قطعا . واللفظ مع القرائن المذكورة ليس صريحا في العتق ولا ظاهرا فيه ، بل ولا محتملا له ، فإخراج عبده أو أمته عن ملكه بذلك غير جائز ، ومن ذلك ما أخبرني به بعض أصحابنا أنه قال لامرأته : إن أذنت لك في الخروج إلى الحمام فأنت طالق ، فتهيأت للخروج إلى الحمام ، فقال لها : اخرجي وابصري ، فاستفتى بعض الناس ، فأفتوه بأنها قد طلقت منه ، فقال للمفتي : بأي شيء أوقعت علي الطلاق ؟ قال : بقولك لها اخرجي ، فقال : إني لم أقل لها ذلك إذنا ، وإنما قلته تهديدا ، أي : إنك لا يمكنك الخروج . وهذا كقوله تعالى : { اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير } فهل هذا إذن لهم أن يعملوا ما شاءوا ؟ فقال : لا أدري ، أنت لفظت بالإذن ، فقال له : ما أردت الإذن ، فلم يفقه المفتي هذا ، وغلظ حجابه عن إدراكه ، وفرق بينه وبين امرأته بما لم يأذن به الله ورسوله ولا أحد من أئمة الإسلام . وليت شعري هل يقول هذا المفتي : إن قوله تعالى : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } إذن له في الكفر ؟ وهؤلاء أبعد الناس عن الفهم عن الله ورسوله وعن المطلقين مقاصدهم . ومن هذا إذا قال العبد لسيده ، وقد استعمله في عمل يشق عليه : أعتقني من هذا العمل ، فقال : أعتقتك ، ولم ينو إزالة ملكه عنه ، لم يعتق بذلك ، وكذلك إذا قال عن امرأته : هذه أختي ، ونوى أختي في الدين ، لم تحرم بذلك ، ولم يكن مظاهرا . والصريح لم يكن موجبا لحكمه لذاته . وإنما أوجبه لأنا نستدل على قصد المتكلم به لمعناه ; لجريان اللفظ على لسانه اختيارا ; فإذا ظهر قصده بخلاف معناه لم يجز أن يلزم بما لم يرده ، ولا التزمه ، ولا خطر بباله ، بل إلزامه بذلك جناية على الشرع وعلى المكلف ، والله سبحانه وتعالى رفع المؤاخذة عن المتكلم بكلمة الكفر مكرها لما لم يقصد معناها ولا نواها ، فكذلك المتكلم بالطلاق والعتاق والوقف واليمين والنذر مكرها لا يلزمه شيء من ذلك ; لعدم نيته وقصده ; وقد أتى باللفظ الصريح ; فعلم أن اللفظ إنما يوجب معناه لقصد المتكلم به ، والله تعالى رفع المؤاخذة عمن حدث نفسه بأمر بغير تلفظ أو [ ص: 47 ] عمل ، كما رفعها عمن تلفظ باللفظ من غير قصد لمعناه ولا إرادة ، ولهذا لا يكفر من جرى على لسانه لفظ الكفر سبقا من غير قصد لفرح أو دهش وغير ذلك ، كما في حديث الفرح الإلهي بتوبة العبد ، وضرب مثل ذلك بمن فقد راحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة ، فأيس منها ثم وجدها فقال : اللهم أنت عبدي وأنا ربك : " أخطأ من شدة الفرح " ولم يؤاخذ بذلك ، وكذلك إذا أخطأ من شدة الغضب لم يؤاخذ بذلك ، ومن هذا قوله تعالى : { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم } قال السلف : هو دعاء الإنسان على نفسه وولده وأهله في حال الغضب ، ولو استجابه الله تعالى لأهلكه وأهلك من يدعو عليه ، ولكنه لا يستجيبه لعلمه بأن الداعي لم يقصده . [ حكم الطلاق حال الغضب ] ومن هذا رفعه صلى الله عليه وسلم حكم الطلاق عمن طلق في إغلاق ، وقال الإمام أحمد في رواية حنبل : هو الغضب ، وكذلك فسره أبو داود ، وهو قول القاضي إسماعيل بن إسحاق أحد أئمة المالكية ومقدم فقهاء أهل العراق منهم ، وهي عنده من لغو اليمين أيضا ، فأدخل يمين الغضبان في لغو اليمين وفي يمين الإغلاق ، وحكاه شارح أحكام عبد الحق عنه ، وهو ابن بزيزة الأندلسي ، قال : وهذا قول علي وابن عباس وغيرهما من الصحابة إن الأيمان المنعقدة كلها في حال الغضب لا تلزم ، وفي سنن الدارقطني بإسناد فيه لين من حديث ابن عباس يرفعه : { لا يمين في غضب ولا عتاق فيما لا يملك } وهو وإن لم يثبت رفعه فهو قول ابن عباس ، وقد فسر الشافعي : { لا طلاق في إغلاق } بالغضب ، وفسره به مسروق ; فهذا مسروق والشافعي وأحمد وأبو داود والقاضي إسماعيل ، كلهم فسروا الإغلاق بالغضب ، وهو من أحسن التفسير ; لأن الغضبان قد أغلق عليه باب القصد بشدة غضبه ، وهو كالمكره ، بل الغضبان أولى بالإغلاق من المكره ; لأن المكره قد قصد رفع الشر الكثير بالشر القليل الذي هو دونه ، فهو قاصد حقيقة ، ومن هنا أوقع عليه الطلاق من أوقعه ، وأما الغضبان فإن انغلاق باب القصد والعلم عنه كانغلاقه عن السكران والمجنون ، فإن الغضب غول العقل يغتاله كما يغتاله الخمر ، بل أشد ، وهو شعبة من الجنون ، ولا يشك فقيه النفس في أن هذا لا يقع طلاقه ; ولهذا قال حبر الأمة الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين : إنما الطلاق عن وطر ، ذكره البخاري في صحيحه ، أي عن غرض من المطلق في وقوعه ، وهذا من كمال فقهه رضي الله عنه وإجابة الله دعاء رسوله له ، إذا الألفاظ إنما يترتب عليها موجباتها لقصد اللافظ بها ، ولهذا لم يؤاخذنا الله باللغو في أيماننا ، ومن اللغو ما قالته أم المؤمنين عائشة وجمهور السلف أنه قول الحالف : لا والله ، وبلى والله ، في عرض كلامه [ ص: 48 ] من غير عقد اليمين . وكذلك لا يؤاخذ الله باللغو في أيمان الطلاق ، كقول الحالف في عرض كلامه : علي الطلاق لا أفعل ، والطلاق يلزمني لا أفعل ، من غير قصد لعقد اليمين ، بل إذا كان اسم الرب جل جلاله لا ينعقد به يمين اللغو فيمين الطلاق أولى ألا ينعقد ولا يكون أعظم حرمة من الحلف بالله ، وهذا أحد القولين من مذهب أحمد ، وهو الصواب ، وتخريجه على نص أحمد صحيح ; فإنه نص على اعتبار الاستثناء في يمين الطلاق لأنها عنده يمين ، ونص على أن اللغو أن يقول : لا والله وبلى والله ، من غير قصد لعقد اليمين ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم } وصح عنه أنه قال : { أفلح وأبيه إن صدق } ولا تعارض بينهما ، ولم يعقد النبي صلى الله عليه وسلم اليمين بغير الله قط ، وقد { قال حمزة للنبي صلى الله عليه وسلم : هل أنتم إلا عبيد لأبي ، وكان نشوانا من الخمر ، فلم يكفره بذلك } ، وكذلك الصحابي الذي قرأ : ( قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، ونحن نعبد ما تعبدون ) وكان ذلك قبل تحريم الخمر ، ولم يعد بذلك كافرا ; لعدم القصد ، وجريان اللفظ على اللسان من غير إرادة لمعناه ، فإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه ، فتجني عليه وعلى الشريعة ، وتنسب إليها ما هي بريئة منه ، وتلزم الحالف والمقر والناذر والعاقد ما لم يلزمه الله ورسوله به ; ففقيه النفس يقول : ما أردت ، ونصف الفقيه يقول : ما قلت ; فاللغو في الأقوال نظير الخطأ والنسيان في الأفعال ، وقد رفع الله المؤاخذة بهذا وهذا كما قال المؤمنون : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " فقال ربهم تبارك وتعالى : قد فعلت . ادامه دارد.
+ نوشته شده در دوشنبه بیست و نهم خرداد ۱۳۹۱ ساعت 18:59 توسط محمد رضایی
|